Search
Close this search box.

الوصف

  الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، وبعد:

     فقد توارد السؤال عن حكم سفر المرأة من غير محرم ، وتحقيقا للرغبة ، وإجابة للطلبة ، كان هذا الجواب ، سائلا الله التوفيق والصواب.

     اعلم ـ وفقني الله وإياك ـ أن سفر المرأة من غير محرم له ثلاث حالات :

     أما الحالة الأولى: فأن تسافر من بلد لا تستطيع فيه إظهار دينها الواجب وما إليـه. فهذه الحال لا يُشْتَرط للمرأة فيها مَحْرم اتفاقاً . قال ابن الملقن رحمه الله في : “الإعلام بفوائد عمدة الأحكام” (6/79): “أما سفر الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام فاتفق العلماء على وجوبه ، وإن لم يكن معها أحد من محارمها”أ.هـ. وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله في : “المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” (3/450) : “اتُّفِق على أنه يجب عليها ـ أي : المرأة ـ أن تسافر مع غير ذي محرم إذا خافت على دينها ونفسها ، وتهاجر من دار الكفر كذلك” أ.هـ. وذلك (لأن القيام بأمر الدين واجب ، والهجرة من ضرورة الواجب ، وما لا يتم الواجب إلا به واجب) قاله في : “مطالب أولي النهى” (3/433) .

وأماالحـالة الثانية: فأن تسافر المرأة للحج الواجب . فهذه الحال مُخْتَلف في اشتراط المَحْرميَّة لها على قولين مشهورين :

     ـ أولهما : أن المحرم شرط فيها . (وممن ذهب إلى هذا : إبراهيم النخعي، والحسن البصري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق وأبو ثور) قاله ابن عبد البر رحمه الله في : “التمهيد” : (21/50) . وقال أبو العباس في : “المفهم” (3/449) : “وقد رُوي ذلك عن النخعي والحسن ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحاب الرأي ، وفقهاء أصحاب الحديث” . وقال العيني رحمه الله في : “عمدة القاري شرح صحيح البخاري” (7/126) : “وبه قال النخعي والحسن البصري والثوري والأعمش” . إلا أن أبا حنيفة جعل ذلك شرطاً في السفر الطويل كما في : “بدائع الصنائع”(2/124) و”حاشية ابن عابدين” (2/464) ، وقال ابن الملقن في “الإعلام” (6/80) : “واشترط أبو حنيفة المحرم لوجوب الحج عليها ـ أي : المرأة ـ إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاثة مراحل” أ.هـ المراد . وبِشَـرط أبي حنيفة قال جمـاعة . قال ابن عبد البر رحمه الله في : “التمهيد” (21/54) : “هذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، وهو قول ابن مسعود” . وجعله البدر العيني رحمه الله قول : النخعي والحسن البصري والأعمش ـ وسبق ـ .

     ـ والثاني : أن المحرم ليس بشرط فيها . قال أبو العباس في : “المفهم” (3/449) : “وذهب عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والأوزاعي ومالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بشرط ، ورُوي مثله عن عائشة رضي الله عنها” أ.هـ. وقال ابن الملقن في : “الإعلام” (6/79) : ” فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يُشترط المحرم …وبه قال عطاء وسعيد ابن جبير وابن سيرين ، ومالك والأوزاعي” .

     والمختار عدم اشتراط المَحْرَميَّة في ذلك ، وإليه ذهب تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ، قال ابن مفلح رحمه الله في : “الفروع” (3/236) : ” وعند شيخنـا ـ أي : ابن تيمية ـ : تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم . وقال : إن هذا مُتوجِّه في كل سفر طاعة ، كذا قال ـ رحمه الله ـ ” ا.هـ . وكذا عنه في : “الإنصاف” (8/79) . وفي : “الاختيارات” (ص/171) للبعلي قوله : “وتَحُجُّ كل امرأة آمنة مع عدم محرم . قال أبو العباس : وهذا مُتوجِّه في سفر كل طاعة ” ا.هـ. وجعله جماعة قول الجمهور والأكثر ، قال ابن بطال رحمه الله في : “شرح صحيح البخاري” (4/532) : ” هذه الحال ترفع تَحْريج الرسول عن النساء المسافرات بغير ذي مَحْرم .كذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي : تخرج المرأة في حجة الفريضة مع جماعة النساء في رفقة مأمونة ، وإن لم يكن معها محـرم . وجمهور العلماء على جواز ذلك ، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه . وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصري. وقال الحسن : المسلم مَحْرَم ـ أي : الصالح التقي كالمحرم الحقيقي في كونه مأموناً على المرأة ـ ولعل بعض من ليس بمحرم أوثق من المحرم ” ا.هـ.

     ويدل على صحة ذلك شيئان :

     ـ أولهما : ما أخرجه البخاري في : “صحيحه” (برقم : 1860) من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال : ( أَذِن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حَجّة حَجَّها ، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف” . وفيه (اتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك) قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله في : “فتح الباري” (4/91) .

     فائدة:

     قال البدر العيني رحمه الله في : “عمدة القاري” (10/219) :

     “وفي الحديث المذكور : ما خرجت أزواج النبي صلى الله عليه و آله وسلم إلى الحج إلا بعد إذن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لهن وأرسل معهن من يكون في خدمتهن . وكان عمر رضي الله تعالى عنه متوقفاً في ذلك أولاً ، ثم ظهر له الجواز؛ فأذن لهن وتبعه على ذلك جماعة من غير نكير . وروى ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر قال : منع عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة . وروى أيضاً من طريق أم دُرَّة عن عائشة رضي الله عنها قالت :منعنا عمر الحج والعمرة حتى إذا كان آخر عام فأذن لنا” أ.هـ وبنحوه في : “الفتح” (4/88،89).

     ـ والثاني : القياس على الحال الأولى المتفق عليها ، وهي : عدم اشتراط المحرمية للمرأة التي تنتقل من بلد لا تستطيع إظهار دينها الواجب فيه . ويَعْضده ما حكاه الحافظ في : “الفتح” (4/91) بقوله : “وقد احتج له بحديث عَدِيّ بن حاتم مرفوعاً: “يوشك أن تخرج الظعينة من الحِيْرة تؤم البيت لا زوج معها” الحديث . وهو في البخاري . وتُعقِّب بأنه يدل على وجود ذلك على جوازه. وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام ، فيُحمل على الجواز” ا.هـ. وكذلك ما حكاه ابن الملقن في : “الإعلام” (6/82) بقوله : “قال ابن بزيزة : والصحيح عندنا أن فريضة الله لازمة والمؤمنون إخوة ، وطاعة الله واجبة ، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله” ، والمسجد الحرام أجل المساجد فكان داخلاً تحت مقتضى هذا الخبر” ا.هـ. لكنه قال : “ولا يَتَّجه ذلك لكونه عاماً في المساجد ، فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي” ا.هـ. وبنحوه في “الفتح” (4/91) .وكذلك قول ابن عبد البر في : “التمهيد” (21/52): “ليس المَحْرَم عند هؤلاء من شرائط الاستطاعة ، ومن حجتهم : الإجماع في الرجل يكون معه الزاد و الراحلة ـ و فيه الاستطاعة ، ولم يمنعه فساد طريق ولا غيره ـ أن الحج عليه واجب . قالوا : فكذلك المرأة ؛ لأن الخطاب واحد ، والمرأة من الناس” ا.هـ.

     تنبيـه:

     للقول بعدم شرطية المحرم في الحج الواجب ـ شرط ، وهو الأمن على المرأة ، لكن اختُلِف بما يقع ، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في : “المغني” (5/31) : “قال ابن سيرين : تَخْرج مع رجل من المسلمين لا بأس به . وقال مالك : تخرج مع جماعة النساء . وقال الشافعي : تخرج مع حُرَّة مسلمة ثقة. وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول ، تَتَّخذ سُلَّماً تصعد عليه وتنـزل. ولا يقربـها رجل ، إلا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعه” ا.هـ المراد. وقال النووي رحمه الله في: “شرح مسلم” (9/148) : “وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه : لا يشترط المحرم، بل يشترط الأمن على نفسها . قال أصحابنا : يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ، ولا يلزمها الحج عندنا إلا بأحد هذه الأشياء ، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها ، لكن يجوز لها الحج معها ، هذا هو الصحيح . وقال بعض أصحابنا : يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة ، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد ، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة . والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول” ا.هـ.

     والمقصود وجود الأمن على المرأة في ذلك كما سبق ، ويكفي ظن وقوعه بلا شَرْط العلم ، كسفر المرأة للحج الواجب مع جَمْعٍ من النساء في (حملة حجٍ) رسميَّة؛ لأنها رفقة مأمونة عادة ، قال ابن الملقن رحمه الله في : “الإعلام” (6/82) : “والذين لم يشترطوه ـ أي : المحرم ـ قالوا : المشترط الأمن على نفسها مع رفقة مأمونين رجالاً أو نساء” ا.هـ. المراد . وكذا أمن الطريق ، وهو ظاهر ، وأشار الحافظ في: “الفتح” (4/91) إليه بقوله : “جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق” ا.هـ.

فائـدة :

     حديث : “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها حُرْمة” ـ أي : ذو مَحْرَميَّة ـ ” وقد خَرَّجه البخاري (رقم:1088) ومسلم (رقم : 1339) . وفي لفظ : “لا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم” ـ أي : فيَحِلّ ـ : قد أُجيب عنه بأجوبة ، منها قول أبي العباس القرطبي في : “المُفْهِم” (3/450) : “إن المنع في هذه الأحاديث إنما خرج لما يُؤدِّي إليه من الخلوة، وانكشاف عوراتـهن غالباً . فإذا أُمِن ذلك ، بحيث يكون في الرفقة نساء تنحاش إليهن ، جاز . كما قاله الشافعي ومالك” ا.هـ.

     وَصْـلٌ : الظاهر إلحاق الأسفار الواجبة بالحج ، وهو المشهور . قال ابن بطـال في : “شرح صحيح البخاري” (4/533) : “ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه ـ بغير محرم ، وكذلك كل واجب عليها أن تخرج فيه” أ.هـ المراد .

     وأما الحالة الثالثة: فأن تسافر المرأة سفراً غير واجب ، كعمرة مستحبة أو زيارة لذوي رحم . فهذه الحال السفر فيها يأتي على ضربين :

     ـ أولهما : أن يكون السفر قصيراً ، فمذهب الحنفية جوازه من غير اشتراط محرم ـ كما في : “بدائع الصنائع” (2/124) ، و”حاشية ابن عابدين” (2/464،465) ـ ، خلافاً للجمهور فلا فرق بين سفر طويل وقصير عندهم ، وهو مذهب المالكية ـ كما في : “إرشاد السالك” (1/165) ، ومذهب الشافعية ـ كما في : “المجموع” (7/69ـ70) و”الإيضاح مع حاشية الهيتمي” (ص/102) ـ ، ومذهب الحنابلة ـ كما في : “الإنصاف” (3/410،411)ـ والخلاف فيه مشهور. قال العكبري رحمه الله في : “رؤوس المسائل الخلافية” (2/591) : “يعتبر المحرم في سفر المرأة الطويل والقصير . خلافاً لأبي حنيفة في قوله : (يُعْتَبر في الطويل)” . إلا أنه اختُلِف في تحديد السفر الطويل ، فمذهب الحنفية ثلاثة أيام فصاعداً ـ كما في : “حاشية ابن عابدين” (2/464) ـ ، وبه قال جماعة . قال ابن الملقن في : “الإعلام” (6/80،81) : “واشترط أبو حنيفة (المحرم) لوجوب الحج عليها ، إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاثة مراحل ـ أي : أيام ، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث والرأي . وحُكِي أيضاً عن الحسن البصري والنخعي والشعبي والحسن بن حُيَي … وقال سفيان : إن كانت من مكة على أقل من ثلاث ليال فلها أن تحج مع غير ذي حرم أو زوج ، وإن كانت على ثلاث فصـاعداً : فلا . قال ـ لعله : ابن بزيرة ـ : والذي عليه جمهور أهل العلم أن الرفقة المأمونة من المسلمين تنـزل منـزلة الزوج أو ذي المحرم . وذَكَر ـ لعله : ابن بزيرة ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم ، وقالت : ليس كل النساء تجد محرماً‍!” أ.هـ. وقال ابن عبد البر في : “التمهيد” (21/54) : “وقال آخرون: لا يقصر المسافر الصلاة إلا في مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وكل سفر يكون دون ثلاثة أيام : فللمرأة أن تسافر بغير محرم . هذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن مسعود” ا.هـ.

     وحجة الحنفية في التفريق لخصها الحافظ في : “الفتح” (4/90) بقوله : “وحجتهم : أن المنع المقيد بالثلاث مُتَحَقِّق ، وما عداه مشكوك فيه ، فيؤخذ بالمُتَيَقَّن” أ.هـ. وهي كذلك في الصلاة ، قال ابن بطال في : “شرح صحيح البخاري” (3/79) : “واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا مع ذي محرم” . وقالوا : لما اختلفت الآثار والعلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين ، واليقين ما لا تنازع فيه ، وذلك ثلاثة أيام” ا.هـ.

     إلا أن حجة الحنفية نَقَضها جماعة ، قال الحافظ في : “الفتح” (4/90) : “ونوقض : بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر ، فينبغي الأخذ بـها وطرح ما عداها ؛ فإنه مشكوك فيه ، ومن قواعد الحنفية : تقديم الخبر العام على الخاص ، وترك حمل المطلق على المقيد. وقد خالفوا ذلك هنا” ا. هـ. وأما اختلاف ألفاظ الحديث فقال عنه النووي في : “شرح مسلم” (9/10) : “قال العلماء : اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن ، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد” ا.هـ.

     تنبيه:

     قال الحافظ في : “الفتح” (2/660) : “الحكم في نـهي المرأة عن السفر وحدها متعلق بالزمان ، فلو قطعت مسيرة ساعة واحدة مثلاً في يوم تام لتعلَّق بـها النهي، بخلاف المسافر فإنه لو قطع مسيرة نصف يوم مثلاً في يومين لم يَقْصر، فافترقا . والله أعلم” ا.هـ. وعليه لو قيل : إن ثلاثة أيام عند القائلين بـها، المقصود منها ألا تَبْقى المرأة في سفرها مدة ثلاثة أيام ، لكن لو قطعت مسافة مسيرة ثلاثة أيام في يومٍ لجاز لها السفر ، وعلى القول به : فيجوز السفر للمرأة إلى مشارق الأرض ومغاربـها بالطائرة ؛ لأن السفر فيها تُقطع فيه المسافات في أقل من ثلاثة أيام عادة!

     ـ والثاني : أن يكون السفر طويلاً . فاختلف فيه على قولين :

     ـ أولهما : جواز السفر مع غير محرم مع شرط الأمـن ـ وسبق ـ ، وهو وجه عند الشافعية وقول محكي عن مالك رحمه الله . قال النووي في: “المجموع” (7/70) : “(فرع) هل يجوز للمرأة أن تسافر لحج التطـوع؟ أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة ثقات ؟ أو امرأة ثقة ؟ فيه وجهان ، وحكاهما الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي وآخرون من الأصحاب في : (باب الإحصار) . وحكاهما القاضي حسين والبغوي والرافعي وغيرهم . أحدهما: يجوز كالحج . والثاني : وهو الصحيح باتفاقهم ، وهو المنصوص في (الأم)” أ.هـ المراد . وقال ابن الملقن في : “الإعلام” (6/81) : “فإن كانا ـ أي : الحج والعمرة ـ تطوعين، أو سفر زيارة أو تجارة ، ونحوها من الأسفار التي ليست واجبة . فقال الجمهور : لا تجوز إلا مع زوج أو محرم . وقال بعضهم: يجوز لها الخروج مع نسوة ثقات لحجة الإسلام . وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال عند عدم الولي” أ.هـ المراد .

ـ والثاني : عدم جواز السفر إلا بمحرم . وهو مذهب الجمهور ـ كما سبق ـ ، وحكاه بعضهم اتفاقاً . قال ابن الملقن في : “الإعلام” (6/82) : “قال القاضي عياض : واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب”أ.هـ. وكذا حكاه النووي في : “شرح مسلم” (9/148) عن عياض .

     وقد اسْتَوْجَه تقي الدين ابن تيمية رحمه الله القول الأول ، حكاه عنه ابن مفلح في : “الفروع” (3/236) بقوله ـ وسبق ـ : “وعند شيخنا : تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم . وقال : (إن هذا مُتَوَجِّه في كل سفر طاعة) كذا قال ـ رحمه الله ـ ” ا.هـ. وفي بعض ما ذُكِر سابقاً من أدلة دلالة على صحة هذا القول، ويؤكِّده أنه جاء في الخبر ـ وسبق ـ فعل عائشة رضي الله عنها له. قال البدر العيني في : “عمدة القاري” (7/128) : “روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنـها كانت تُسَافر بغير محرم ، فأخذ به جماعة وجَوّزوا سفرها بغير محرم” ا.هـ المراد . وقال الحافظ في : “الفتح” (4/88) : “واستُدِلّ به على جواز حج المرأة بغير محرم” ا.هـ.

     ودليل الجمهور حديث : “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم” ونحوه . لكن قال ابن عبد البر في :”الاستذكار” (27/274) : “والذي جَمَعَ معاني آثار الحديث ـ على اختلاف ألفاظه ـ أن تكون المرأة تُمْنَع من كل سفر يُخْشى عليها فيه الفتنة ، إلا مع ذي محرم أو زوج، قصيراً كان السفر أو طويلاً . والله أعلم” أ.هـ. وبنحوه في : “التمهيد” (21/55) .

     متممات :

     1ـ قال أبو العباس القرطبي في : “المفهم” (3/449) : “وسبب هذا الخلاف ـ أي : في اشتراط المحرم للمرأة في الحج الواجب ـ : مخالفة ظواهر هذه الأحاديث لظاهر قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} . وذلك أن قوله : { من استطاع } ظاهره الاستطاعة بالبدن ، كما قررناه آنفاً ، فيجب على كل من كان قادراً عليه ببدنه . ومن لم تجد مَحْرماً قادرة ببدنها، فيجب عليها فلما تعارضت هذه الظواهر : اختلف العلماء في تأويل ذلك” ا.هـ.

     2ـ قال القاضي عياض رحمه الله في : “إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم” (4/446) : ” قال الباجي : وهذا عندي ـ يعني : اشتراط المحرم ـ في الانفراد ـ أي : عندما تسافر المرأة مُنْفردة لوحدها ـ ، والعدد اليسير ، فأما في القوافي ـ لعله : القوافل ـ العظيمة فهي عندي كالبلاد ، يَصِح فيها سفرها دون نساء وذوي محارم . قال غيره : وهذا في الشابة ، فأما المُتَجَـالَّة ـ وهي الطَّاعِنة في السن ـ فتسافر كيف شائت للفرض والتطوع مع الرجال ودون ذوي المحارم ” أ.هـ. لكن رَدّه النووي في : “شرح مسلم” (9/149) : “وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه ؛ لأن المرأة مظنة الطمع فيها ، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة . وقد قالوا : لكل ساقطة لاقطة . ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها ؛ لغلبة شهوته ، وقلة دينه ومروءته ، وخيانته، ونحو ذلك والله أعلم ” أ.هـ. وكلام الباجي الذي ذكره القاضي عياض هو في : “المنتقى” (7/304) للباجي رحمه الله . إلا أن أبا العباس القرطبي في : “المفهم” (3/450) فَنّده بأحسن من مقول النووي ، حيث قال : ” وفيه بُعْدٌ ؛ لأن الخَلْوة بـها تحرم ، وما لا يطلع عليه من جسدها غالباً عورة ، فالمظنة موجودة فيها . والعموم صالح لها ، فينبغي ألا تخرج منه . والله تعالى أعلم” ا.هـ.

     3ـ قال النووي رحمه الله في : “شرح مسلم” (9/149ـ150) : “(إلا ومعها ذو محرم) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن جميع المحارم سواء في ذلك، فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب ، كابنها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ، ومع محرمها بالرضاع ، كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم ، ومع محرمها من المصاهرة ، كأبي زوجها وابن زوجها، ولا كراهة في شيء من ذلك . وكذا يجوز لكل هؤلاء الخلوة بـها ، والنظر إليها من غير حاجة ، ولكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم . هذا مذهب الشافعي والجمهور ، ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها : فكره سفرها معه ؛ لفساد الناس بعد العصر الأول ، ولأن كثيراً من الناس لا يَنْفرون من زوجة الأب نفرتـهم من محارم النسب . قال : والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله تعالى النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب . وعموم هذا الحديث يرد على مالك . والله أعلم” أ.هـ. وَردّه ابن دقيق العيد رحمه الله في : “إحكام الأحكام” (3/48) وجماعة .

     4ـ أخرج البخاري (رقم 3006) ومسلم (رقم : 1341) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بقول : “لا يَخْلُونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تُسافِر امرأة إلا مع ذي مَحْرم” فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجتْ حَاجَّة وإني اكتُتبتُ في غزوة كذا وكذا . قال : انطلق فحُجّ مع امرأتك” . قال أبو العباس القرطبي في: “المفهم” (3/453) : ” قوله : صلى الله عليه وسلم للرجل : “انطلق فحج مع امرأتك” هو فَسْخ لما كان التزم من المُضِيّ للجهاد. ويدل على تأكُّد أمر صيانة النساء في الأسفار” ا.هـ. المراد .

      هذا، والله أعلم . والحمد لله رب العالمين.

تمت بحمد الله

 

المراجعات

لا توجد مراجعات بعد.

كن أول من يقيم “المبرم في سفر المرأة من غير محرم”

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *