Search
Close this search box.

الوصف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله وصحبه أجمعين

 

أما بعد: فهذا تقرير موجز لقاعدة السلف الصالح في أخبار الصفات التي وردت في السمع، والله الموفق لا رب سواه.

 

   اعلم-رحمني الله وإياك-أن للسلف الصالح فيما يسمى بصفات الله الخبرية (قاعدة) تقوم على ركائز ثلاث:

 

ـ أما الأولى: فالإيمان بصفات الله التي وصف بها نفسه في آيات تَنْزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها كقوله سبحانه: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وقوله: (بل يداه مبسوطتان) وقوله: (ولتصنع على عيني) وحديث النـزول.

     قرَّره عن أهل الحديث والسلف الأئمةُ، ومنهم الإمام الترمذي رحمه الله تعالى حيث قال في: “الجامع” (4/692): “والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم… أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال كيف. وهذا الذي اختاره أهل الحديث: أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها” أ.هـ المراد. وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى: كما في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة ” (3/432): “اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت به ثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تغيير ولا وصف، ولا تشبيه. فمن فَسَّر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة، فإنهم لم يَصِفوا ولم يُفَسِّروا ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جَهَمٍ فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء” أ.هـ. وقال الخطابي رحمه الله تعالى في: “الغنية عن الكلام وأهله”: “فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظواهرها. أي: من غير تغيير أو تفسير، ونفي الكيفية والتشبيه عنها” أ.هـ. وقال الموفق بن قدامة رحمه الله تعالى في: “ذم التأويل” (ص/11): “ومذهب السلف رحمة الله عليهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنـزيله، أو على لسان رسوله، من غير زيادة عليها، ولا نقص منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ـ أي: دون تغيير أو تفسير ـ “أ.هـ المراد.

    لذا أثبتوا الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة دون تغيير أو تفسير، يقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى في: “شرح السنة” (1/168): “والاصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل من صفات الله تعالى، كالنَّفْس والوجه والعين، واليد والرِّجل، والإتيان والمجيء والنـزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك والفرح” أ.هـ. وقال أبو إسماعيل الصابوني رحمه الله تعالى في: “عقيدة أصحاب الحديث” (ص/165): “وكذلك يقولون ـ أي: أهل الحديث والسلف الصالح ـ في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت به الأخبار الصحاح من السمع والبصر، والعين والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة …” أ.هـ.

 

  ثم لابد من اعتبار شيئين في ذلك:

 

أولهما: حقيقة كلمة (الصفات)، حيث إنها جمع صفة: قال أيوب بن موسى: “الصفة في الأصل مصدر “وصفت الشيء” إذا ذَكَرتَهُ بمعانٍ فيه لكن جُعل في الاصطلاح عبارة عن كل أمر زائد على الذات، يُفهَم في ضمن فهم الذات ثبوتياً كان أو سلبياً، والعلاقة بين الصفة والموصوف هي النِّسْبْة الثبوتية، وتلك النسبة إذا اعتُبرتْ من جانب الموصوف يُعبَّر عنها بالاتصاف، وإذا اعتُبرتْ من جانب الصفة يَعَبَّر عنها بالقيام”. وعليه فالصفة في اللسان (معنى قائم بالذات دال عليه، كدلالة اللفظ على الكلمة) قاله في “تاج العروس” (1/593).

 وجملة (معنى قائم بالذات) أي: ثابت لها نسبةً وإضافة، لا أن ذلك حادث فيهما أو قائم بها على وجه الجسمية.

 

والثاني: ثبوت الصفات له قاعدة عند أهل الحديث مَرَدُّها إلى شيئين:

 

    الأول: ما قرَّره الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في: “الكفاية” (ص/432) بقوله: “خبر الواحد لا يُقْبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها؛ والعلة في ذلك أنه إذا لم يُعْلَم أن الخبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان أَبْعَدَ على العلم بمضمونه أما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قَرَّرها وأخبر بها عن الله عز وجل، فإن خبر الواحد فيها مقبول والعمل بها واجب، ويكون ما ورد فيه شرعاً لسائر المكلفين أن يعمل به” أ.هـ. المراد.

 

   والثاني: ما قَرَّره الخطيب البغدادي أيضاً في: “الفقيه والمتفقه” (ص/132): “لا تَثْبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صَحَّ من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها، فلا يُحْتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُخْتَلَف فيه وجاء حديث آخر يَعْضده فلا يُحْتَج به” أ.هـ.

    وعليه فإذا جاء خبر الثقة مخالفاً للمعلوم في حق الله وصفاته: رُدّ أو تُأَوُّل على معنى صحيح يَلِيْقُ بالله سبحانه، وفي أصل ذلك يقول الخطيب البغدادي في: “الفقيه والمتفقه” (ص/132): “وإذا روى الثقة المأمون خبراً متَّصل الإسناد رُدّ بأمور. أحدها: أن يُخَالف موجبات العقول فيُعْلَم بطلانه، لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوِّزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا. والثاني: أن يُخالف نَصَّ الكِتاب والسنة المتواترة فيُعْلَم أنه لا أصل له أو منسوخ. والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحاً غير منسوخ وتُجْمع الأمة على خلافه. والرابع: أن يَنْفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخَلْقِ عِلْمُهُ، فيدُلَ ذلك على أنه لا أصل له؛ لأنه لا يجوز أن يكون له أصل، فلا يقبل؛ لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية” أ.هـ. المراد.  وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى في: “أعلام الحديث” (3/1898): “الأصل في هذا وما أشبهه من أحاديث الصفات والأسماء: أنه لا يجوز ذلك إلا أن يكون كتاب ناطق أو خبر مقطوع بصحته، فإن لم يكونا فبما يثبت من أخبار الآحاد المستندة إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع بصحتها، أو بموافقة معانيها، وما كان بخلاف ذلك فالتوقف عن إطلاق الاسم به هو الواجب، ويُتَأوَّل حينئذٍ على ما يَلِيْق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقاويل أهل الدين والعلم مع نفي التشبيه فيه” أ.هـ. المراد.

 

ـ وأما الثانية: فتنـزيه الله سبحانه عن معاني المِثْليَّة والتَّشْبِيه، كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء) وقال: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أنداداً) أشباهاً، وقاله جمع من السلف. خَرَّجه ابن جرير الطبري في: “التفسير” (1/198) وقال: “(أندادا) جَمْعُ نِدّ، وهو العِدْل والمِثْل، وكل شيء كان له نظير لشيء، وله شبيه فهو له نِدٌّ” أ.هـ. وكذا قوله سبحانه: (هل تعلم له سمياً) قال ابن عباس رضي الله عنهما: “هل تَعْلَمُ للرّبِ مِثْلاً أو شبيها”. خرجه ابن جرير في: “التفسير” (8/316). وقوله: (ولم يكن له كفواً أحد) قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه: “لم يكن له شبيه ولا عِدل، وليس كمثله شيء” خرجه الحاكم في “المستدرك” (2/589) وقال: “حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه” وخرج الطبري في “التفسير” (12/745) عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: “ليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهار” وعن أبي العالية رحمه الله أنه قال: “لم يكن له شبيه ولا عِدْل وليس كمثله شيء“.

     وعلى ذلك التنـزيه أهل الحديث والسلف الصالح، يقول الإمام الخطيب البغدادي (ت:463هـ) ـ كما في : “تذكرة الحفاظ” (3/114) للذهبي ـ : “أما الكلام في الصفات فإن ما رُوي منها في السنن الصحاح مذهبُ السلف إثباتها ، وإجراؤها على ظواهرها ـ أي : بلا تفسير ولا تغيير ـ وهي الكيفية والتشبيه عنها ـ وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والفصل إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ، ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه …الأصل في هذا : أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات، ويَحْتذِي حذوه ومثاله ، وإذا كان معلوم أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا : لله يَدُ وسمع وبصر فإنما هي صفات أَثْبَتَها الله تعالى لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر : العلم ، ولا نقول أنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إنما وَجَبَ إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى : (ليس كمثله شيء) و(ولم يكن له كُفُواً أحداً) “أ.هـ.

 

     وينبغي لحظ شيئين في ذلك:

 

    أولهما: معنى (التشبيه) وحقيقته. قال ابن فارس رحمه الله تعالى في: “مقاييس اللغة”: (3/243): “الشين والباء والهاء أصل يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً” وقال في: (5/296): “الميم والثاء واللام أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء. وهذا مثل هذا: أي نظيره. والمِثْل والمثال في معنى واحد، وربما قالوا: مَثِيل كشبيه” أ.هـ. وكذا في: “تهذيب اللغة” (6/90) و”القاموس” (ص/1610) و”اللسان” (13/504) و”الصحاح” (6/2236) وغيرها. وقال الكفوي في “الكليات” (ص/270): “التشبيه في اللغة: التمثيل مطلقاً. وفي الاصطلاح: هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشيء الواحد في نفسه” أ. هـ.

 

    والثاني: ليس من التشبيه الباطل التَّشابه اللَّفْظي: كـ (السميع البصير) في قوله سبحانه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وقوله: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) وهلم جراً من الأمثلة.

        وكذا الجائز في حق الله من المعاني، كـ (السَّمِيْع) من السَّمْع وهو إدراك الأصوات ، حيث يجوز إضافة هذا المعنى إلى الله، قال البخاري في : “جامعه” : “قالت عائشة رضي الله عنها : (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)”. قال البخاري رحمه الله تعالى في : “الصحيح” : “باب قوله تعالى: (وكان الله سميعاً عليماً) وقالت عائشة :< الحمد لله الذي وسع سمعه الأصواتفأنزل الله : (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) الآية “. قال ابن بطال رحمه الله تعالى في : “شرح البخاري” (1/417) : “ومعنى قول عائشة : (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات) أدرك سمعه الأصوات، لا أنه اتسع سمعه لها؛ لأن الموصوف بالسعة يَصِحَّ وصفه بالضيق بدلاً منه، والوصفان جميعاً من صفات الأجسام” أ.هـ. المراد. وأما السمع الخاص بالمخلوق فَحِسُّ الأذن وما وَقَرَ فيها، كذا في: “اللسان” (3/2096) وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى في: “مفردات ألفاظ القرآن” (ص/425): “السَّمْع قوة في الأذن به يُدْرِك الأصوات” أ.هـ. المراد. وأما ما علّقه البخاري عن عائشة رضي الله عنها فقد خرجه أحمد في: “المسند” (6/46) والنسائي في: “ألسنن” (6/168) وابن ماجه في ا: “السنن” برقم (188، 2063)، والحاكم في: “المستدرك” (2/481) وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه” ووافقه الذهبي.

    وعلى كلٍّ فالتشابه في ذَيْنك الوجهين ليس من (التشبيه) لأن ما وصف الله به نفسه وكذا رسوله: لا يكون كذلك ألبتَّة، يقول الإمام نُعيم بن حماد الخزاعي (ت: 228هـ) ـ كما في: “شرح أصول الاعتقاد” (2/532) للالكائي: “من شَبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً” أ.هـ.  

 

وأما الثالثة: فالتفويض مع عدم التفسير، قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى في: “التفسير” (1/241) عند قوله: “إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام”: “والأولى في هذه الآية وما شاكلها: أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويَكلِ علمها إلى الله تعالى ويعتقد أن الله عز اسمه مُنَزَّه عن سمات الحدث، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة. ثم قال: “قال سفيان بن عيينة: (كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه، ليس لأحد أن يُفَسِّره إلا الله سبحانه ورسوله” أ.هـ. وقال الترمذي رحمه الله تعالى في “الجامع” (4/692): “الذي اختاره أهل الحديث: أن تُروى هذه الأشياء كما جاءتْ ويُؤْمَن بها ولا تُفَسَّر، ولا تُتَوَهَّم ولا يُقال كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه” أ.هـ. ويقول الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى في : “عقيدة أهل الحديث” (ص/44) : “وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله: لم يَخْتلفوا في أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته، يُْثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به ويُصدِّقون الرب جل جلاله في خبره ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش ويُمِرُّونه على ظاهره وَيكلِون علمه إلى الله، ويقولون (آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك ورضيه منهم فأثنا عليهم به” أ.هـ.

 

       وحاصل حقيقة (التفويض) ثلاثة أشياء:

 

       أولها: أن المعنى المُتبادَر للذِّهن من أخبار الصفات غيرُ مراد؛ لأنه لا يَلِيق بالله تعالى بل بالحسٍّيات كمعنى الجارحة في (اليد) والحَدَقَة في (العين)، والطَّرَف الأدنى الذي يَعْتَنِزُ عليه الجسم في قيامه ومَشْيه في (القَدَم) و(الرِّجْل). وهو بَيِّن بنفي التشبيه عن الله جَلّ جلاله، ونَصَّ عليه جماعة عند تقريرهم لمذهب السلف، ومنهم ابن جماعة الكناني رحمه الله تعالى في : “إيضاح الدليل في قَطْع حُججِ أهل التعطيل” (ص/92) حيث قال بعد تقريره افتراق الأمة وظهور البدع : “فاحتاج أهل الحق إلى الرد على ما ابتدعوه، وإقامة الحجج على ما تقولوه، وانقسموا قسمين: أحدهما : أهل التأويل … والثاني : القائلون بالقول المعروف بقول السلف وهو القطع بأن ما لا يليق بجلال الله تعالى غير مراد، والسكوت عن تعيين المراد من المعاني اللائقة بجلال الله تعالى إذا كان اللفظ محتملاً لمعاني تليق بجلال الله تعالى” أ.هـ المراد .

 

       وثانيها : أن هناك معنى للصفة يَلِيق بالله لكن يُسْكَتْ عن تَعْيينه وهو بَيِّن بِرَدِّ عِلْم الصِّفات إلى الله تعالى مع أن جماعة قَرَّروه عن السلف، ومنهم الإمام النووي رحمه الله تعالى في : “شرح مسلم” (3/19) حيث قال : “اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين : أحدهما: وهو مذهب معظم السلف أو كلهم : أنه لا يُتَكَلَّم في معناها، بل يقولون : يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله وعظمته ، مع اعتقادنا الجازم بأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه مُنـزَّه عن التجسيم والانتقال والتَّحيُّر في جهة وعن سائر صفات المخلوق” أ.هـ. المراد. وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى في: “جامع بيان العلم وفضله” (2/97): “رواها ـ أي: أخبار الصفات ـ السلف وسكتوا عنها، وهم كانوا أعمق الناس علماً، وأوسعهم فهماً، وأقلهم تكلفاً، ولم يكن سكوتهم عن عِيّ، فمن لم يَسَعَه ما وَسِعَهم فقد خاب وخسر” أ.هـ.

 

       وثالثها: رَدُّ العلم بمعاني الصفاتِ اللائقة بالله إليه سبحانه. وفيه نُقُولٌ سبقتْ، وهو مشهور عن السلف، قال البدر العيني رحمه الله تعالى في “عمدة القاري”: (3/624): “لا شك أن النـزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، والله منـزه عن ذلك فما ورد من ذلك فهو من المتشابهات والعلماء فيه على قسمين: الأول: المفوِّضة، يؤمنون بها يُفَوِّضون تأويلها إلى الله عز وجل مع الجزم بتنـزيهه عن صفات النقصان. والثاني: المؤولة. يؤولونها على ما يليق به بحسب المواطن، فأولوا بأن معنى (ينـزل الله): ينـزل أمره، أو ملائكته، وبأنه استعارة، ومعناه: التَّلطُّف بالداعين والإجابة لهم ونحو ذلك” أ.هـ المراد. وقال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى : في “الإتقان” (2/6) : “ومن المتشابه آيات الصفات… وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ، ولا نُفسِّرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها”،  وقال البدر الزركشي رحمه الله تعالى في : “البرهان” (1/78ـ79) : “النوع السابع والثلاثون: في حكم المتشابهات الواردة في الصفات وقد اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث على ثلاث فرق : أحدها؛ أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل تُجرى على ظاهرها، ولا تُؤَوِّل شيئاً منها ، وهم المشبهة. والثاني: أن لها تأويلاً، ولكنا نمسك عنه مع تنـزيه اعتقادنا عن الشَّبه والتعطيل، ونقول: لا يعلمه إلا الله، وهو قول السلف. والثالث: بأنها مؤولة، وأَوَّلوها على ما يليق به، والأول باطل، والأخيران منقولان عن الصحابة … قال الشيخ أبو عمر بن الصلاح: (وعلى هذه الطريقة أي: التفويض ـ مضى صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يَصْدق عنها ويأباها. وأفصح الغَزَّالي عنهم في غير موضع بتهجين ما سواها حتى ألْجم آخراً في (إلجامه) كل عالم أو عامي عما عداها). قال: وهو كتاب: “إلجام العوام عن علم الكلام” آخر تصانيف الغزالي مطلقاً، آخر تصانيفه في أصول الدين، حَثَّ فيه على مذاهب السلف وَمْن تبعهم” أ.هـ. المراد.

   وتلك المعاني الثلاثة لـ (التفويض) لخَّصها جماعة عند التعريف بتفويض السلف، ومنهم البدر العيني في: “عمدة القاري” (9/188) حيث عَرَّف التفويض في الصفات بقوله: “وهو الإيمان بأنها حق على ما أراد الله، ولها معنى يليق به، وظاهرها غير مراد” أ.هـ. والمراد بـ (الظاهر) هنا (ما يُفْهَم عند الإطلاق على الأجسام) قاله الشهرستاني في: “الملل والنحل” (1/175).

     وعلى ذلك المعتقد مضت القرون الفاضلة، يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله تعالى في: “العقيدة النظامية” (ص/32): “اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب، وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الله تعالى. والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المُتَّبع” أ.هـ. قال الحافظ في: “الفتح” (13/407) “وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار، كالثوري والأوزاعي، ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة. وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة” أ.هـ.

 

     ثم ينبغي التَّنبيه إلى شيئين في التفويض:

 

       الأول: أن محل التفويض فيما يوهم التشبيه، لا فيما تَمحَّض للكمال أو النقص، كذا الأصل. قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى في: “العواصم والقواصم” (2/42): “والأحاديث الصحيحة في هذا الباب ـ أي: باب الصفات لله على ثلاث مراتبالأولى: ما ورد من الألفاظ وهو كمال محض ليس للنقائص والآفات فيه حظ، فهذا يجب اعتقادهالثانية: ما ورد وهو نقص محض، فهذا ليس لله تعالى فيه نصيب، فلا يضاف إليه إلا وهو محجوب عنه في المعنى ضرورةً، كقوله: “عبدي: مرضتُ فلم تَعُدْني”، وما أشبههالثالثة: ما يكون كمالاً ولكنه يوهم تشبيهاً” أ. هـ المراد.

وقد مثَّل على المتمحض للكمال بـ “الوحدانية والعلم والحياة وعدم المثل والنظير) ونحوها. وضرب على المحتمل للنقصان بـ (اليد والأصابع) ونحوها، لذا جعل جمع مذهب السلف على التأويل الإجمالي خلافاً للخلف كالأشاعرة، ومنهم عبد السلام اللقَّاني رحمه الله تعالى (1078هـ) حيث قال في: “إتحاف المريد بشرح جوهرة التوحيد” (131) شرحاً لـ:

وكـل نصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبيها               أوِّلـه أو فوِّض ورُمْ تَنْزِهـا

(وكل نص) أي: لفظٍ ناصٍ ورد في كتاب أو سنة صحيحة (أوهم التشبيها) باعتبار ظاهر دلالته، أي: أَوْقَعَ في الوهم صحة القول به … (أوِّله) وجوباً؛ بأن تحمله على خلاف ظاهره، والمراد (أوِّله تفصيلاً) مُعَيِّناً فيه المعنى الخاص … كما هو مختار “الخلف” من المتأخرين … وأشار لتنويع الخلاف بقوله: “أَو فَوِّض” عِلْمَ المعنى المراد من ذلك النص تفصيلاً إليه تعالى، وأَوِّله إجمالاً كما هو طريق السلف. (ورُمْ) أي: اقصد واعتقد مع تفويض علم ذلك المعنى (تنـزيهاً) له تعالى عما لا يليق به، فالسلف يُنَزِّهونه سبحانه عما يُوهِمُه ذلك الظاهر من المعنى المحال، ويفوضون علم حقيقته على التفصيل إليه تعالى، مع اعتقاد أن هذه النصوص من عنده سبحانه. فظهر مما قَرَّرنا: اتفاق السلف والخلف على تنـزيهه تعالى عن المعنى المحال الذي دل عليه ذلك الظاهر ـ وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهره المحال، وعلى الإيمان بأنه من عند الله، جاء به رسول الله r، لكنهم اختلفوا في تعيين مَحْمَلٍ له معنى صحيح وعدم تعيينه” أ.هـ. وقال الشيخ الدردير رحمه الله تعالى (1201هـ) في: “شرح الخريدة البهية” (ص/43): “واشتبه الأمر. أي: في باب الصفات ـ على أقوام وقوفاً مع الأمور العادية، وتَمَسُّكاً بظواهر نصوص شرعية… وأجاب ائمتنا: سَلَفُهُم: بأن الله تعالى منـزَّه عن صفات الحوادث مع تفويض معاني هذه النصوص إليه تعالى؛ إيثاراً للطريق الأسلم (وما يعلم تأويله إلا الله). وخَلَفُهُم: بتعيين محامل صحيحة إبطالاً لمذهب الضالين، وإرشاداً للقاصدين… والحاصل أنه لابد من تأويلٍ، أي: حمل اللفظ على غير ظاهره، إلا أن الخلف عينوا المحامل فتأويلهم تفصيلي، وتأويل السلف إجمالي” أ.هـ.

وقال الزرقاني رحمه الله تعالى (1367هـ) ملخصاً الفَارِق كما في كتابه: “مناهل العرفان” (ص/162): “علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلَّق بهذه المتشابهات، ثم اختلفوا فيما وراءها

فأول ما اتفقوا عليه صرفُها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعاً. كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القطعية، وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته

ثانية: أنه إذا توقَّف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين، ويرد طعن الطاعنين.

ثالثة: أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يُفْهم منه فهماً قريباً، وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله سبحانه: “وهو معكم أين ما كنتم”؛ فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة.

وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: مذهب السلف، ويُسمَّى مذهب (المُفوِّضة) بكسر الواو وتشديدها، وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده، بعد تنـزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة ـ أي: على الله ـ …

المذهب الثاني: مذهب الخَلَف، ويسمى مذهب (المُؤوِّلة) بتشديد الواو وكسرها… “أ.هـ.

 

الثاني : قال الشيخ القضاعي رحمه الله تعالى في : “فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان” (ص/80) :” إذا سمعتَ في عبارات بعض السلف: (إنما نؤمن بأن له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي) فلا تَظُن أنهم أرادوا ذاته العليَّة منقسمة إلى أجزاء وأبعاض ، فجزء منها يد، وجزء منها وجه، غير أنه لا يُشابه الأيدي والوجوه التي للخلق، حاشاهم من ذلك، وما هذا إلا التشبيه بعينه، وإنما أرادوا بذلك أن لفظ اليد والوجه قد استُعمل في معنى من المعاني وصفة من الصفات التي تليق بالذات العلية كالعظمة والقدرة، غير أنهم يتورَّعون عن تعيين تلك الصفة تهيباً من التَّهجُّم على ذلك المقام الأقدس، وانتهز المُجسِّمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام” أ.هـ المراد .

ولهذه اللُّوْثة اختار جمهور الخلف من علماء الأمة بدعة التأويل الخاص على كفر الحمل على الظاهر مع تصحيحهم مذهب السلف بأنه أسلم، وفي ذلك يقول العلاء بن عابدين رحمه الله تعالى (1306هـ) في: “الهدية العلائية” (ص/471): “وأما الخلف فلما ظهرت البدع والضلالات ارتكبوا تأويل ذلك. وصَرْفه عن ظاهره مخافة الكفر، فاختاروا بدعة التأويل على كفر الحَمْل على الظاهر الموهم التجسيم والتشبيه، وقالوا: استوى بمعنى استولى… واليد بمعنى القدرة، والنـزول بمعنى نزول الرحمة ” أ.هـ. المراد.

وقانون التأويل عند الخلف قائم على قواعد اللغة ورد تلك الأخبار إلى صفات الفعل، يقول أبو محمد الجويني رحمه الله تعالى-كما في: “إتحاف السادة المتقين”(2/110) -مبينا طريقة الخلف: “والطريقة الثانية: الكلام فيها وفي تفسيرها؛ بأن يردها عن صفات الذات إلى صفات الفعل، فيحمل النزول على قرب الرحمة، واليد على النعمة، والإستواء على القهر والقدرة”أ.هـ.المراد.وقال المرتضى الزبيدي رحمه الله تعالى في: “إتحاف السادة المتقين”(2/109): “وشرط التأويل أن يكون على مقتضى لسان العرب”أ.هـ.

لذا جعله العز   بن عبد السلام رحمه الله تعالى في: “فتاويه”(ص/22) بدعة حسنة لرد التشبيه، حيث قال: “وليس الكلام في هذا بدعة قبيحة، وإنما الكلام فيه بدعة حسنة، واجبة لما ظهرت الشبهة،

وإنما سكت السلف عن الكلام فيه، إذ لم يكن في عصرهم من يحمل كلام الله ورسوله على ما لا يجوز حمله عليه، ولو ظهرت في عصرهم شبهة لكذبوهم، وأنكروا عليهم غاية الإنكار، فقد رد الصحابة والسلف على القدرية لما أظهروا بدعتهم، ولم يكونوا قبل ظهورهم يتكلمون في ذلك، ولا يردون على ذلك، ولا يردون على قائله، ولا نقل عن أحد من الصحابة شيء من ذلك إذ لا تدعو الحاجة إليه. والله أعلم” أ.هـ.

 

 

وكَتَبَ/

(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به

الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها اللهُ

 

المراجعات

لا توجد مراجعات بعد.

كن أول من يقيم “القاعدة الأثرية في الصفات الخبرية”

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *