الوصف

أنموذج 

الباب الأول: في شرح اعتقاد السلف في ظواهر الأخبار المتشابهة.

اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف، وشرحه بأربعة أشياء:

أولها: في حقيقة السلف. حيث إنهم الصحابة والتابعون.

ثانيها: في حقيقة مذهب السلف، حيث إن حقيقة مذهبهم في الأخبار المتشابهة أن كل من بلغه خبر من هذه الأخبار من عوام الخلق فيجب عليه فيه سبعة أمور:

1)  التقديس

2)  ثم التصديق

3)  ثم الاعتراف بالعجز

4)  ثم السكوت

5)  ثم الإمساك

6)  ثم الكف

7)  ثم التسليم لأهل المعرفة

     أما التقديس فالمراد به: تنزيه الرب -سبحانه- عن الجسمية وتوابعها،وأما التصديق فهو الإيمان بالخبر وأن ما ذكره(صاحبه)فيه حق على الوجه الذي قاله وأراده. وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته. وأما السكوت فأن لا يسأل عن معناه، ولا يخوض فيه، ويعلم أن سؤاله عنه بدعة، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر. وأما الإمساك فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى، والزيادة فيه والنقصان منه، والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ، وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة. وأما الكف فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكير في. وأما التسليم لأهله فأن لا يعتقدأن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء.

ثالثها: في حكم تلك الوظائف السبعة. حيث إن كافة السلف قد اعتقد وجوبها على كل العوام، ولا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها.

رابعها: في إيضاح الوظائف السبعة. وذلك بشرحها وظيفة وظيفة:

فالوظيفة الأولى: التقديس: وهو تنزيه الرب (عز وجل) عن الجسمية وتوابعها، والجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق، سواء كان ذلك الجسم كثيفا كالجبال أو لطيفا كالهواء، وسواء كان مظلما كالأرض أو مشرقا كالشمس، وسواء كان مشفا لا لون له كالهواء أو عظيما كالعرش أو صغيرا كالذرة أو حيوانا كالإنسان.

     فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يرد تلك الأخبار جسما، وأن ذلك على الله محال، وهو عنه مقدس. فانخطر بباله أن الله (تعالى) جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم؛ لأن كل جسم مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كفر؛ لأنه مخلوق، وكان مخلوقا لأنه جسم. فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأمة، السلف منهم والخلف.

     مثال: حديث:”ينزل الله (تعالى) في كل ليلة إلى السماء الدنيا…” فليتحقق كل مؤمن من أن النزول في حق الله تعالى ليس هو انتقال شخص وجسد من علو إلى سفل؛ فإن الشخص والجسد أجسام والرب (جل جلاله) ليس بجسم، ومعلوم أن النزول الذي هو ضد الصعود مفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال  هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم من علو إلى أسفل.

     ومن ثم فاعلم أنه أريد بالنزول في الخبر معنى من المعاني الجائزة في لغة العرب مع كونه معنى يليق بجلال الله (تعالى) وعظمته، وإن لم يعلم المرء حقيقته.

     والوظيفة الثانية: التصديق. وهو أن يعلم قطعا أن هذه الألفاظ أريد بها معاني تليق بجلال الله (تعالى). وأن رسوا الله(صلى الله عليه وسلم) صادق في وصف الله (تعالى) به وأن ما أخبر عنه حق لا ريب فيه على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده.

     فإن قيل: التصديق إنما يكون بعد التصور، والتصور إنما يكون بعد التفهم. فهذه الألفاظ إذا لم يفهم العبد معانيها كيف يعتقد صدق قائلها فيه؟

     فالجواب: أن التصديق بالأمور الجملية ليس بمحال، وكل عاقل يعلم أنه أريد بهذه الألفاظ معان،وأن كل اسم فله مسمى إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى. فلو قال قائل: في البيت حيوان. أمكن أن يصدق دون أن يعرف أنه إنسان أو فرس أو غيره. فكذلك من سمع الاستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة للعرش، فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة هي الإقبال على خلقه وإيجاده، أو الاستيلاء، أو معنى أخر من معاني النسبة. فأمكن التصديق به.

     فإن قيل: فأي فائدة من مخاطبة الخلق بما لا يفهمون؟

     فالجواب: أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله، وهم الأولياء والراسخون من العلماء. وقد فهموا. وليس من شرط من يخاطب العقلاء بكلام أن يخاطبهم بما يفهمه الصبيان والعوام.

والوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجز. والناس عامة وخاصة، فأما العامة فيجب عليهم الإقرار بعدم معرفة تلك الألفاظ وحقيقتها.

     وأما الخاصة من العلماء الراسخين والأولياء العارفين فما جاوزوا فيه العوام من المعرفة فما بقي ممن لم يبلغوه أكثر، بل لا نسبة لما طوي عنهم إلى ما كشف لهم لكثرة المطوي وقلة المكشوف. ولذلك قال سيد الصديقين: “العجز عن درك الإدراك إدراك.” فأوائل حقائق هذه المعاني بالإضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالإضافة إلى خواص الخلق. فكيف لا يجب عليهم الاعتراف بالعجز.

     والوظيفة الرابعة: السكوت عن السؤال. وذلك واجب على العوام؛ لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه، وخائض فيما ليس أهلا له.

     والعامي إن سأل جاهلا في ذلك زاده جوابه جهلا، وربما ورطه في الكفر من حيث لا يشعر. وإن سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه لقصور فهمه كعجز الصائغ (أي: للذهب والفضة) عن تفهيم النجار دقائق صناعته.

     ولما وجب منع العوام عن السؤال في المتشابه، كما أنكر رسول الله على قوم رآهم خاضوا في مسألة القدر وسألوا عنه فقال لهم: “أفبهذا أمرتم؟” وقال: “إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة السؤال.”

     والوظيفة الخامسة: الإمساك. حيث يجب على عموم الخلق الإمساك عن التصرف في الألفاظ الواردة في هذه الأخبار من ستة أوجه، وهي التفسير والـتأويل والتصريف والتفريع والجمع والتفريق.

     فالأول: التفسير بحيث يقوم بتبديل اللفظ الوارد بلغة أخرى يقوم مقامها في العربية أو معناها في غيرها كالفارسية. فمثاله لفظ (الاستواء) فإنه في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على فريد إيهام. وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه، لا بما يباينه ويخالفه، ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه. وأنت خبير أن إدراك التمييز بين لفظة وضعت مكان لفظة من لغة أخرى ليس جليا سهلا يسيرا على كافة الخلق خصوصا دقائق التفاوت؛ لذا فلابد من الاحتياط فيحسم هذا الباب، إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل. كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم، وللحذر من خلط الأنساب احتياطا لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب. فكما إن إيجاب العدة حكم شرعي فتحريم تبديل العربية حكم شرعي ثبت بالاجتهاد وترجيح طريق الأولى؛ لأن الاحتياط في الخبر عن الله وصفاته أهم وأولى من الاحتياط في العدة ومن كل ما احتاط به الفقهاء من هذا القبيل.

——————————

 ** تم حذف الحواشي [مكتب خادم الشريعة]

 

تمت بحمد الله

المراجعات

لا توجد مراجعات بعد.

كن أول من يقيم “تهذيب إلجام العوام عن علم الكلام”

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *