رد تحريم الشرب قائما

رد تحريم الشرب قائما

بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)

 

 

       

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

     فإن القول بحرمة الشرب قائما قول شاذ، ومع ذلك ترى أناسا ينشرون هذا القول ؛ لذا وقع هذا المكتوب إيضاحا للمسألة. والله الموفق لا رب سواه.

 

اعلم – رحمني الله وإياك- أن مسألة الشرب قائما فيها قولان مشهوران للفقهاء :

        أولهما: جواز الشرب قائماً مع كونه خلاف الأولى، وهو مذهب الشافعية. قرره عنهم جماعة ، ومنهم النووي في : “روضة الطالبين” (7/340) ، والشربيني في : “مغني المحتاج” (3/330) وابن شطا الدمياطي في : “حاشية إعانة الطالبين” (3/367). وبنحوه القول بالكراهة التنـزيهية ـ كما في : “شرح مسلم” للنووي (13/195) ـ ورواية عن الإمام أحمد ـ كما في : “الإنصاف” (8/244) ـ ، والعلة الجمع بين الأخبار الواردة في ذلك . يقول النووي في : “شرح مسلم” (13/195) ـ بعد إشارته إلى جملة أحاديث في المسألة ـ : “وليس في هذه الأحاديث بحمد الله تعالى إشكال ، ولا فيها ضعف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنـزيه ، وأما شربه r قائماً فبيان للجواز فلا إشكال ولا تعارض” ا.هـ المراد . وقال أبو العباس القرطبي في : “المفهم” (5/285) : “وأما من قال بالكراهة : فيُجمع بين الحديثين بأن فِعْل النبي r يُبيِّن الجواز ، والنهي يقتضي التنـزيه” أ.هـ.

        وبالكراهة جزم التقي ابن تيمية رحمه الله كما في : “مجموع الفتاوي” (32/209) ـ وجماعة، وهو مَسْلك حسن في الجمع . قال في : “فتح الباري” (10/87) : “وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنـزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها، وأبعدها عن الاعتراض ، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيراً فقال : (إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم) ، وبذلك جزم الطبري وأيَّده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه أو كان حراماً ثمَّ جَوَّزه لبيَّن النبي r ذلك بياناً واضحاً ، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا” ا.هـ المراد .

        والثاني: جواز الشرب قائماً دون كراهة، وعليه الجمهور ، قال أبو العباس القرطبي في : “المفهم” (5/285) : “والجمهور على جواز الشرب قائماً ، فمن السلف: أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم” ا.هـ وقال المازري في : “المُعْلِم بفوائد مسلم” (3/68) : “أجازه ـ أي : الشرب قائماً ـ عمر وعثمان وعلي وجمهور الفقهاء رضي الله عنهم ومالك بن أنس” ا.هـ . وعليه الحنفية ـ كما في : “الفتاوي الهندية” (5/341) ـ ، والمالكية ـ كما في : “الفواكه الدواني” : (2/417) ـ ، والحنابلة ـ كما في : “كشاف القناع” (4/156) ، و”شرح منتهى الإرادات” (3/38)ـ .

        ويدل على صحة مذهب الجمهور أدلة، ومنها ما خَرَّجه البخاري (برقم:5617) ومسلم (برقم: 5248) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : “سقيت رسول الله r من زمزم، فشرب وهو قائم” وخرَّج البخاري (برقم:5616) أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلّى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أُتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم. ثم قال : (إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن النبي r صنع مثل ما صنعت” . وفي : “الموطأ” (ص/705) أن مالكاً بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان: كانوا يشربون قياماً” . وقال أبو العباس القرطبي في : “المفهم” (5/285) : “وجمهور الفقهاء ومالك مُتمسِّكين في ذلك بشرب النبي r من زمزم قائماً. وكأنهم رأوا هذا الفعلَ منه متأخراً عن أحاديث النهي؛ فإنه كان في حجة الوداع فهو ناسخ، وحقَّق ذلك حكم الخلفاء الثلاثة بخلافها، ويَبْعد أن تخفى عليهم تلك الأحاديث مع كثرة عِلْمهم، وشدة ملازمتهم للنبي r ، وتشددهم في الدين ، وهذا وإن لم يصلح للنسخ فيصلح لترجيح أحد الحديثين على الآخر” ا.هـ.

        وأما حديث : “لا يشرب أحدكم قائماً فمن نسي فليستقيء” أخرجه مسلم (برقم: 5247) “من طريق عمر بن حمزة قال أخبرني أبو غطفان المُرِّي أنه سمع أبا هريرة فذكره” ، وأشار القاضي عياض في : “إكمال المعلم” (6/491) إلى ضعفه بقوله : “ولا خلاف بين أهل العلم أن من يشرب قائماً ناسياً فليس عليه أن يستقيء ـ قال بعض الشيوخ: والأظهر أن هذا موقوف على أبي هريرة ، ثم قال : “وحديث عمر بن حمزة لا يحتمل مثل هذا الحديث لمخالفة غيره عن أبي غطفان عن أبي هريرة، قالوا : وعمر بن حمزة لا يتحمل مثل هذا الحديث لمخالفة غيره له والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة” ا.هـ المراد . لكن رده النووي في : “شرح مسلم” (13/195) بقوله : “أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، وادعى فيها دعاوى باطلة “ثم قال : “وليس في هذه الأحاديث بحمد الله تعالى إشكال، ولا فيها ضعف بل كلها صحيحة” ثم قال : “وأما قول القاضي عياض : (لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسياً ليس عليه أن يتقايأه) فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته ، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة. فإن ادعى مدع منع الاستحباب فهو مجازف لا يلتفت إليه، فمن أين له الإجماع على منع الاستحباب، وكيف تترك هذه السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوى والترهات” أ.هـ. وعقَّب الحافظ في :”الفتح” :(10/86) بقوله :”وليس في كلام عياض التعرُّض للاستحباب أصلاً ، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى . وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه، وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر” ثم قال: “وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يُخْرِج له مسلم في المتابعات وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح، والله أعلم” ا.هـ.

        وقيل : الاستقاءة إنما على جهة التطبب، قال القرطبي في : “المفهم” (5/286) : “ويمكن أن يقال : إن القيء وإن لم يقل أحد بأنه واجب عليه، فلا بعد في أن يكون مأموراً به على جهة التطبب وهو يؤيد قول من قال: إن النهي عن ذلك مخافة مَرَض أو ضرر؛ فإن القيء استفراغ مما يخاف ضرره” ا.هـ. وبنحوه قال المازري في : “المعلم” (3/68) .

        تنبيـه :

        قال القرطبي في : “المفهم” (5/285) : “لم يَصِرْ أحد ٌمن العلماء فيما علمتُ إلى أن هذا النهي على التحريم وإن كان جارياً على أصول الظاهرية” أ.هـ. إلا أن ابن حزم في : “المحلى” (6/229ـ230) قَرَّر حُرْمة الشرب قائماً مستدلاً بأحاديث النهي عن الشرب قائماً، ومنها ما خرجه مسلم (برقم : 5246) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه “أن رسول الله r نهى عن الشرب قائماً” ،وحديث أنس رضي الله عنه ” أن النبي r زجر عن الشرب قائماً” رواه مسلم (برقم: 5242) . لذا قال الحافظ في : “الفتح” (10/86) تعليقاً على قول القرطبي السابق: “وتُعقِّب بأن ابن حزم منهم ـ أي الظاهرية ـ جزم بالتحريم” أ.هـ .

فائدة :

        ذكر ابن القيم رحمه الله في : “زاد المعاد” (4/229) أن في الشرب قائماً آفات عديدة، ومنها أنه (لا يحصل به الرِّي التام، ويشوش على الشارب، ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدرج) .

       هذا والله أعلم .

 

تمت بحمد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *