مسألة تقبيل يد العالم تديناً
بقلم: (صالح بن محمد الأسمري)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن العادات المستحسنة تقبيل يد العالم ديانة، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على شرعية ذلك، قَرَّره عن الحنفية جماعة ، ومنهم : الموصلي في “الاختيار لتعليل المختار” (4/418) حيث قال: “ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل” ا.هـ. وبنحوه في “بدائع الصنائع” (5/124). ومن المالكية جماعة. ومنهم : الدردير في “الشرح الصغير” (2/530 مع البلغة) حيث قال: “لا يُندب تقبيل اليد بل يُكره. والمراد يدُ الغير. وأما يد نفسه فليس الشأن فعل ذلك ، وإن وقع فيُكره ، ومحلُّ كراهة تقبيل اليد إن كان المقبل مسلماً ، فلو قَبَّل يدك كافر فلا كراهة إلا لمن يُرجى بركته من والد وشيخ صالح فلا يُكره بل يُطلب” ا.هـ. وبنحوه في “كفاية الطالب الرباني” (2/438). وعن الشافعية جماعة. ومنهم :زكريا الأنصاري في “أسنى المطالب” (4/186) حيث قال: “وتقبيل اليد لزهد أو صلاح أو كبر سن أو نحوها من الأمور الدينية كشرف وصيانة مستحب إتباعاً للسلف والخلف” أ.هـ. وبنحوه في “حاشية قليوبي وعميرة” (3/213). وعن الحنابلة جماعة. ومنهم :البُهوتي في “كشاف القناع” (2/156) حيث قال: ” ولا بأس بتقبيل الرأس واليد لأهل العلم والدين ونحوهم” ا.هـ. وبنحوه في “غاية المنتهى” (1/282).
وقد ورد في ذلك أحاديث. ومنها : ما خرَّجه أحمد في “المسند” (2/70) وأبو داود في “السنن” (2/53) وابن ماجه في “السنن” (2/1221) عن ابن عمر رضي الله عنهما – وذكر قصة- وفيه: “فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده” وخرَّج أبو داود في “السنن” (2/778) عن أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس قال: “لما قدمت المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله”.
وخرَّج الترمذي في “الجامع” (5/77) وقال: “حسنٌ صحيح” من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه وفيه: (قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي .. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات) وفيه: (فقبلوا يده ورجله فقالا نشهد أنك نبي).
فائدة: خَرَّج البيهقي في “السنن” (7/101) وابن أبي شيبة في “المصنف” (8/750) بسندها إلى تميم بن سلمة قال: “لما قدم عمر الشام استقبله أبو عبيدة بن الجرَّاح فقبَّل يده ثم خَلَوَا يبكيان” قال تميم: “تقبيل اليد سنّة” وفي كتاب “الورع” باب قبلة اليد, قال المروزي: “سألت أبا عبد الله –أي: أحمد بن حنبل- عن قبلة اليد فقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس قد قبَّل أبو عبيدة يد عمر”.
تنبيه: قال أبو الفضل عبدالله الغماري رحمه الله في “إعلام النبيل بجواز التقبيل” (ص/36-38): “قد يُعارض من يُنكِر التقبيل ما تقدَّم من الأحاديث بما رواه الترمذي وابن ماجه من طريق حنظلة بن عبيد الله عن أنس قال: قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال:لا قال:أفيلتزمه ويقبله؟ قال:لا قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: “نعم “. وبما رواه الطبراني وأبو يعلى وابن عدي من طريق يوسف بن زياد عن عبدالرحمن بن زياد الإفريقي عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة قال: دخلت يوماً في السوق مع رسول الله صلى الله وسلم عليه فجلس إلى البزاز فاشترى سراويل بأربعة دراهم ، وكان لأهل السوق وزان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتزن وأرجح” فقال الوزان: إن هذه الكلمة ما سمعتها من أحد. قال أبو هريرة: فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء ألا تعرف نبيك فطرح الميزان ، ووثب إلى يد النبي صلى الله عليه وسلَّم يريد أن يقبلها فجذب يده منها وقال: “هذه إنما تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم”. وبما رواه ابن عدي في “الكامل” والمحاملي في “الأمالي” وابن شاهين في “الأفراد” من طريق عمرو بن عبدالجبار السنجاري عن عمه عبيدة بن حسان عن قتادة عن أنس مرفوعا: “قبلة المؤمن أخاه المصافحة”.
فيجاب بوجوه:
الأول: أن هذه الأحاديث لا تصح للمعارضة لضعفها ، بل منها ما عُدَّ في الموضوعات. أما الحديث الأول فضعفه أحمد والبيهقي كما نقله الحافظ العراقي في “المغني” لأن في سنده حنظلة . قال فيه أحمد وابن معين والنسائي: ضعيف الحديث. زاد أحمد: يروي عن أنس أحاديث مناكير. وقال ابن حبَّان في “الضعفاء”: اختلط بأخره حتى كان لا يدري ما يحدث به فاختلط حديثه القديم بحديثه الأخير, تركه يحيى القطان. وأما الحديث الثاني: فأورده ابن الجوزي في “الموضوعات” ونقل عن الدارقطني أنه قال في “الأفراد”: الحمل فيه على يوسف بن زياد لأنه مشهور بالأباطيل, ولم يروِ عن الأفريقي غيره. وعن ابن حبان أنه قال في الإفريقي: يروي الموضوعات عن الأثبات. وأما الحديث الثالث: فقال عنه ابن عدي: غير محفوظ ، وأعله بأن عمرا روى عن عمه مناكير.
الثاني: أن هذه الأحاديث على فرض صحتها -وهو بعيد- لا تصلح المعارضة أيضاً؛ لأن أَحاديث التقبيل أكثر عدداً, وأصح سنداً.
الثالث: تحمل هذه الأحاديث على ما إذا كان الباعث على التقبيل مصلحة دنيوية كغنى أو جاه أو رياسة مثلاً أو على ما قاله الإمام مالك فيما سبق بأن كان يدعوا إلى الكبر والنخوة ورؤية النفس ومساعدتها في حظها ولا شَكَّ أن التقبيل إذا أدى إلى هذه الأشياء أو كان الباعث عليه التقرب إلى غنى أو ذي جاه فإنه يُكره بلا خلاف ولا يبعد تحريمه حينئذ كما صرَّح به بعض علماء الشافعية ، أما إذا خلا من ذلك كله فهو مُستحب أو جائز” ا.هـ.
تمت بحمد الله