بسم الله الرحمن الرحيم
يعمَد البعض لترك مذهب قومه الفقهي بعد تفقُّهه عليه،وتقليده له عُمُرا (!) مُتمسَّكا بأن الفقهاء أجازوا الإنتقال عن المذهب لغيره من المذاهب الفقهية المعتبرة.
لكن الشأن ليس على هذا الإطلاق،فقد شدَّد الفقهاء في الإنتقال حتى حرّمه جماعةٌ مطلقا-حكاه الحطاب في: “مواهب الجليل”(1/32)-،سدا لذريعة التَّلاعُب بأحكام الشريعة وسقوط هيبتها،والمشهور عند الفقهاء رعاية شيئين عند الإنتقال لمذهب من المذاهب الأربعة:
-أولهما: التزام شروط التقليد في ذلك،
– ومنها ما حكاه القرافي رحمه الله تعالى بقوله: “قال الزَّنَاتيَ: يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقالُ من مذهبٍ إلى مذهب بثلاثة شروط: ألاَ يَجْمع بينهما على وجهٍ يخالف الإجماع، كمن تزوَّج بغير صَدَاقٍ ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد، وأن يعتقد فيمن يُقلِّده الفَضْلَ بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رَمْياً في عَمَاية، وألاَّ يتتبَّع رُخَصَ المذاهب.” انتهى.
–ومنها ما قاله العز ابن عبدالسلام رحمه الله تعالى في: “ قواعد الأحكام فى مصالح”( 2/158) :“ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك ؟ فيه خلاف , والمختار التفصيل , فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم ; فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه , فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره , ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى , لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير , بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه , ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل “انتهى.
–ومنها ألا يقصد بالإنتقال غرضا فاسدا كالوجاهة والمال،يقول التقي ابن تيمية رحمه الله تعالى –كما في: “مجموع الفتاوي”(20/222) – : “ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها”انتهى المراد.وبنحوه في: “جزيل المواهب”(ص/42)للسيوطي رحمه الله تعالى.
-الثاني: رعاية مذهب البلد الشائع المُتَّبع،فإن الشُّذوذ له تبعاتٌ في القضاء والإفتاء والعمل،وكذا له آثاره على عبادات المقلّد ومعاملاته مع نفسه وأهله وذويه وغيرهم، حكى التقي ابن تيمية رحمه الله عن الوزير ابن هبيرة رحمه الله قوله-كما في: “المسوَّدة في أصول الفقه”(ص/ 96)- : “فأما تعيين المدارس بأسماء فقهاء معينين فإنه لا أرى به بأسا، حيث إن اشتغال الفقهاء بمذهب واحد من غير أن يختلط بهم فقيه في مذهب آخر يثير الخلاف معهم ويوقع النزاع فيه؛فإنه حكى لي الشيخ محمد بن يحيى عن القاضي أبي يعلى أنه قصده فقيه ليقرأ عليه مذهب أحمد، فسأله عن بلده فأخبره، فقال له: إن أهل بلدك كلهم يقرءون مذهب الشافعي فلماذا عدلت أنت عنه إلى مذهبنا؟ فقال له: إنما عدلت عن المذهب رغبة فيك أنت، فقال له: إن هذا لا يصلح فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد وباقي أهل البلد على مذهب الشافعي لم تجد أحدا يعبد معك ولا يدارسك، وكنت خليقا أن تثير خصومة وتوقع نزاعا، بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك على مذهبه أولى، ودله على الشيخ أبي إسحاق وذهب به إليه، فقال: سمعا وطاعة، أقدمه على الفقهاء”انتهى.
ثم هناك أمر يغفل عنه كثيرٌ من المتفقّهه أبان عنه الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في: “جزيل المواهب”(ص/42) بقوله: “يُكره أو يُمنع للفقيه –الإنتقال عن مذهبه- ؛لأنه قد حصَّل فقه ذلك المذهب ويحتاج إلى زمن آخر لتحصيل فقه هذا المذهب،فيشغله ذلك عما هو الأهم من العمل بما تعلمه،وقد ينقضي العمر قبل حصول المقصود من المذهب الثاني،فالأَوْلى ترك ذلك”انتهى. وحكاه عن السيوطي مُقِرّا له غيرُ واحدٍ ،كابن عابدين الحنفي رحمه الله تعالى في: “العقود الدرية”(2/327)،والمُرابط المالكي رحمه الله تعالى في: “مراقي السعود”(ص/462)،في آخرين.
والله الهادي،لارب سواه.
وكَتَبَ/
(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به
الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها الله
تمت بحمد الله