Search
Close this search box.

رهــط كالذبــاب…!

رَهْطُ الذَُبابِ 

(منتصف محرم لعام 1427هـ)

بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)

 

 

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : “والجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلى العقر ولا يقع على الصحيح . والعاقل يزن الأمور جميعاً هذا وهذا”

 

     ما فَتِأَ رَهْطٌ من الناس في اقتناص معايب الآخرين … يُحَاكون (الذباب) في تصيُّد الأوساخ (!) ولقد صدق القائل :

شَرّ الوَرَى مَنْ يَعيْبِ الناس مُشْتَغِلٌ      مِثْلَ الذُّبابِ يُرَاعي مَوْضِعَ العِلَلِ

 

     فتجد فيهم نَهْمِة (الذباب) في تَتَبُّعِ مَحَالِّ القَذَر، غير مُكْتَرِثين بالتَّبِعَة (!) ومنها ما جاء في حديث : “لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله” [1] .

 

     وتِلْحظ على قَسَماتهم نَشْوة (الذباب) عند وقوفه على مُبْتغاه، فإذا ظفروا بعيب طربوا وفرحوا حالَ منافقٍ بغيظ، وصفها الفضيل بن عياض بقوله : “إن من علامة المنافق أن يَفرح إذا سمع بعيب أحدٍ من أقرانه”[2] .

 

     وتكشف فِعَالهم عن سَوْءة صدورهم، كذا (الذباب) ! خلافاً لأرباب العقل والصلاح وفي مقدَّمتهم الصدر الأول، فقد قال سفيان بن دينار في نعتهم : “كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً لسلامة صدورهم”[3].

 

     يتلَقَّف أحدهم العيب لا لِيَسْتُره بل ليكون له طنين (الذباب) في سماء مجالسه، فتراه لا يُقيم لذوي هيئة عَثرة، ولا يَحْفظ لمسلم عَوْرة . وفي الحديث : “لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة”[4] . وفيه أيضاً : “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود”[5]، أي ذوي الأقدار بين الناس، حيث (إن الله تعالى خَصَّهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا غضب صبره، وأُديل عليه شيطانه، فلا تُسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله، فإنه يتعين استفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع . وهذا باب عظيم من أبواب محاسن الشريعة الكاملة وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد)[6] .

 

     وعلى خُطى أولئك (الجاسوس الناقد) الذي أبان عنه (أحمد أمين) بقوله : “ولو سار الناقد على المعقول لوقف موقف المصلح لا موقف الجاسوس . إن الجاسوس يَهُمه أن يرى الخطأ ليُبَرهن على كفايته، ويَسُرُّه أن يرى العيب ليَقْبض على فاعله، وكلما أَوْغل في استكشاف العيب الدَّفين، وتَعَمَّق في إظهار جريمة مستورة : كان أدل على قدرته ونبوغه، ويأسف إن لم يكن عيب. كأنه يشعر شعوراً باطنياً بأن لا حاجة إليه”[7] .

 

     فأُفٍّ وتُفٍّ لـ (رَهْط الذباب)، و (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه، وتفرغ لعيوب الناس[8] . وفي الحديث : “يبصرُ أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه”[9]:

 

قَبِيْحٌ مِنَ الإِنْسَانِ أَنْ يَنْسَى عُيْوبَهُ      وَيَذْكُرُ عَيْباً في أخـيه قد اخْتَفى

ولو كانَ ذا عقـلٍ لما عَابَ غَيْرَهُ      وفيه عيوبٌ لو رآهـا قد اكتفى

 

تمت بحمد الله

 

 

—————————-

(1)    الترمذي في : “الجامع برقم : (2032) .

(2)    (2)  ؟

(3)    أخرجه هناد بن السري في : “الزهد” (2/600) .

(4)    رواه مسلم في : “الصحيح” برقم (2590) .

(5)    رواه أحمد في : “المسند” (2/252) وغيره .

(6)    قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في : “البدائع” (3/139) .

(7)    من مقالة : (النقد والتقريظ)، نشرتها مجلة الرسالة، السنة الأولى، العدد العشرون، سنة (1352هـ)

(8)  اقتباس من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى فى : “مفتاح دار السعادة” (1/298).

(9)  رواه أبو نعيم في : “حلية الأولياء” (4/99) وغيره . وقد علَّق عليه المناوي رحمه الله تعالى في :

“فيض القدير” (6/456) بقوله : “كأن الإنسان لنقصه، وحب نفسه : يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر  لا خفاء له ! مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به، وفيه من العيوب ما نِسْبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة، وذلك من أقبح القبائح، وأفضح الفضائح .

     فرحم الله من حفظه قلبه ولسانه، ولزم شأنه، وكف عن عرض أخيه، وأعرض عما لا يعنيه، فمن حفظ هذه الوصية دامت سلامته، وقلت ندامته، فتسليم الأحوال لأهلها أسلم، والله أعلى وأعلم . ولله در القائل :

أرى كل إنسان يرى عيب غــــيره     ويعمى عن العيب الذي هو فيه

فلا خير فيمن لا يرى عيب نفســـه     ويعمى عن العيب الذي بأخــيه 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *