رد حكاية الاتفاق على تحريم حل السحر بسحر مثله
بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد أنكر جماعة الخلاف في مسألة: حل السحر بسحر مثله، وجزموا بعدم صحة القول بالجواز عن الفقهاء؛ لذا فهذه بُلغة في ذلك. والله الموفق لا رب سواه.
اعلم -رحمني الله وإياك- أن في مسألة حل السحر بسحر مثله خلافا ، قال ابن بطال رحمه الله في : “شرح صحيح البخاري” (9/445) : “واختلف السلف هل يسأل الساحر عن حل السحر عن المسحور ؟ فأجازه سعيد بن المسيّب على ما ذكره البخاري ، وكرهه الحسن البصري وقال : (لا يَعْلم ذلك إلا ساحر ـ ولا يجوز إتيان الساحر)” ا.هـ.
وبالجواز جزم جماعة ، ومنهم الطبري وابن حجر رحمهما الله ، يقول ابن بطال
رحمه الله في : “شرح صحيح البخاري” (9/445) : “قال الطبري : وليس ذلك عندي سواء؛ وذلك أن مسألة الساحر عقد السحر مسألة منه أن يضر من لا يحل ضرره وذلك حرام . وحل السحر عن المسحور نفع له ، وقد أَذِن الله لذوي العلل في العلاج من غير حصر معالجتهم منها على صفة دون صفة ، فسواء كان المعالج مسلماً تقياً أو مشركاً ساحراً ـ بعد أن يكون الذي يتعالج به غير مُحرَّم ـ ، وقد أذن النبي ـ عليه السلام ـ في التعالج وأمر به أمته فقال : “إن الله لم ينـزل داء إلا وأنزل له شفاء ، عَلِمه مَنْ عَلِمه ، وجَهِله مَنْ جَهِله” . فسواء كان علم ذلك وحله عند ساحر أو غير ساحر ، وأما معنى نـهيه عليه السلام عن إتيان السحرة : فإنما ذلك على التصديق لهم فيما يقولون على علم من أتاهم بأنـهم سحرة أو كهان ، فأما من أتاهم لغير ذلك ـ وهو عالم به وبحاله ـ فليس بمنهيّ عنه عن إتيانه”أ.هـ . وقال الحافظ رحمه الله في : “فتح الباري” (1/244) : “وهذا هو المعتمد ـ أي: القول بالجواز ـ ، ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله : ( النشرة من عمل الشيطان ) إشارة إلى أصلها ، ويختلف الحكم بالقصد ، فمن قصد بـها خيراً كان خيراً ، وإلا فهو شر” ا. هـ المراد.
وظاهر كلام ابن عبدالبر رحمه الله في : “التمهيد” (6/243فما بعد) ، والموفق ابن قدامة رحمه الله في : “المغني” (12/305) : يَدُلُّ عليه. وقال البخاري رحمه الله في : “صحيحه” : “باب: هل يَسْتخرجُ السِّحْر؟ . وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : ( رجل به طبٌّ ـ أو يؤخَّذ عن امرأته ـ أيحلُّ عنه أو يُنشّر ؟. قال : لا بأس به ؛ إنما يريدون به الإصلاح . فأما ما ينفع فلم يُنْهَ عنه )” . قال الحافظ في : “الفتح” (10/244) : ” قوله (باب : هل يَسْتخرج السحر؟) كذا أورد الترجمة بالاستفهام إشارة إلى الاختلاف ، وصَدّر بما نقله عن سعيد بن المسيب من الجواز : إشارة إلى ترجيحه . قوله : (وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب الخ) وَصَلَه أبو بكر الأثرم في : (كتاب السنن) من طريق أبان العطار عن قتادة” أ. هـ. وسند الأثرم رحمه الله ذكره ابن عبدالبر رحمه الله في : “التمهيد” (60/244) بقوله : “قال الأثرم : حدثنا حفص بن عمر النمري ، قال حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : في الرجل يؤخذ عن امرأته فليتمه من يداويه، قال : إنما نـهى الله عما يضر، ولم يَنْه عما ينفع” ا.هـ . وهو طريق آخر للأثر، وقد أشار الحافظ في : “الفتح” (10/244) إلى ذلك ، وصَحَّح إسناده في : “تغليق التعليق” (5/49) .
وإلى الجواز مال الإمام أحمد رحمه الله ، قال المرداوي رحمه الله في : “تصحيح الفروع” (6/178) “قال في : “المغني” و”الشرح” : تَوَقَّف أحمد في الحِلّ ـ وهو إلى الجواز أَمْيَل”أ.هـ المراد . واختلف الأصحاب في ذلك على وجهين ، أطلقهما في : “الفروع”(6/178) بقوله : “وتوقّف الإمام أحمد في الحَلّ بسحرٍ ، وفيه وجهان” أ.هـ إلا أن المعتمد عندهم الجواز للضرورة ، قال في : “الإقناع” (4/301) : “ولا بأس بحل السحر بشيء من القرآن والذكر والأقسام والكلام المباح. وإن كان بشيء من السحر : فقد تَوقَّف فيه أحمد، والمذهب جوازه ضرورة” ا.هـ . وقال في : “منتهى الإرادات” (5/175) : “ويجوز الحَلّ بسحرٍ ضرورة”أ.هـ. (أي : لأجل الضرورة) قاله البهوتي رحمه الله في : “شرح منتهى الإرادات” (3/405) وفي : “إرشاد أولي النُّهى”(2/1353) .
وبالجملة : فإن عموم حديث : “هي من عمل الشيطان” ـ أي : النشرة ـ ، وحديث : “ليس منا من تَطيَّر أو تُطيِّر له ، أو تَكهَّن أو تُكُهِّنَ له ، أو سَحَر أو سُحِر له . ومن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول : فقد كفر بما أُنْزِل على محمد r ” : يدل على عدم جواز ذلك ، وبه جزم محققون ، ومنهم : ابن القيم رحمه الله (كما في : “فتح المجيد” (2/502) حيث قال: “النَّشرة : حَلّ السحر عن المسحور ، وهي نوعان :
ـ أحدهما : حَلّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان . وعليه يُحمل قول الحسن ـ فيَتَقَرَّب النَّاشر والمُنْتشر إلى الشطان بما يُحِبّ ، فيبطل عمله عن المسحور .
ـ والثاني : النشرة بالرُّقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة ، فهذا جائز” ا.هـ.
تَتِمَّة :
حديث : “هي من عمل الشيطان” : أخرجه الإمام أحمد في : “المسند” (3/294) وأبو داود في : “السنن” (رقم : 3868) من حديث جابر أن الرسول r سُئل عن النشرة ؟ فقال : “هي من عمل الشيطان” صححه الحاكم في : “المستدرك” (4/418) ووافقه الذهبي لكن من حديث أنس ؛ وقال ابن مفلح في : “الآداب الشرعية” (3/73) : “إسناده جيد” ، وقال الحافظ في : “الفتح” (10/233) : “إسناده حسن” .
وحديث : “ليس منا من تطير …” : أخرجه البزار في : “المسند” (رقم:3044) من حديث عمران بن حصين y . قال عنه المنذري في : “الترغيب والترهيب” (4/33) : “إسناده جيد” . (والله أعلم) .
تمت بحمد الله