عنوان: رد المنع من تنزيه الله عن الحد
بقلم: خادم الشريعة (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
P
الحمد لله المنزّه عن الجسم والحد، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله الأمجد، وعلى مَن بشرعه تعبّد، أما بعد:
تقرير تنزيه الله عن الحد ونفي كونه محدودا سبحانه في محاضراتي المعنون لها ب:(ما لا يسع جهله في الاعتقاد) فاعترض بعض: بأن مفهوم ذلك أن الله ليس منفصلا عن الخلق؛ لأن لفظ (الحد) من الألفاظ المجملة التي بحاجة للتفصيل، فهي من الألفاظ الحادثة التي قال عنها عثمان الدارمي في:"النقض"(1/224) : "وادعى المعارض: أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية، وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين"انتهى المراد.
ويدفع الإعتراض: بأن الحد هو نهاية الشيء وغايته كما في: "القاموس" وغيره. وهذا من خصائص الأجسام والله منزه أن يكون جسما سبحانه، ومن الأدلة النقلية على ذلك قوله تعالى: "ليس كمثله شيء " قال العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى في: "التحرير والتنوير"(25/47) : "الآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مماثلا لله تعالى في صفات ذاته؛ لأن ذاته تعالى لا يماثلها ذوات المخلوقين، ويلزم من ذلك أن كل ماثبت للمخلوقين في محسوس ذواتهم فهو منتف عن الله تعالى" انتهى المراد.
ثم قد ورد نفي الحد عن الله في أقوال الأئمة، ومنها قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه – كما في: "حلية الأولياء"(1/73)- " من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود" ،وقال التابعي زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم -كما في "إتحاف السادة المتقين" (4/ 380)-: "أنت الله الذي لا تحد فتكون محدودا" ، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه-كما في: "الفقه الأكبر"(ص/119-بشرح القاري)-"وهو-أي: الله-شيء لا كالأشياء، ومعنى الشيء: إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض،ولا حد له ولا ضد، ولا ند له"انتهى المراد.وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه -كما في: "الفقه الأكبر"(ص/8)- : "واعلموا أن الحد والنهاية لا يجوز على الله تعالى"انتهى.وقال الإمام أحمد رضي الله عنه-كما في: "اعتقاد الإمام أحمد"للتميمي رحمه الله تعالى في: (2/265-290) من "طبقات الحنابلة"- "ولا تلحقه-سبحانه- الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش"انتهى.
وهذا الإمام الطحاوي رحمه اله تعالى ينزه الله عن الحدود في عقيدته المتفق عليه عند أهل السنة، حيث يقول: "وتعالى – سبحانه – عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات ، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"انتهى.قال السبكي رحمه الله تعالى في: "معيد النعم"(ص/23)عنها: "عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول"انتهى.
وعليه: غلَّط الأئمة من يثبت الحد والنهاية لله سبحانه، ومنهم الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه"(1/129-130) حيث قال: "قال ابن الزاغوني : (ولا بد أن تكون لذاته نهاية وغاية يعلمها )قلت: وهذا رجل لا يدري ما يقول لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقر بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما تحيز ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه
قلت: وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق وما يستحيل عليه فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله وان هذا ومثله إنما يكون في الأجسام وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمباينة والمماسة فإذا أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه وإن منعوا جواز هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر ومتى قدرناه مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز ثم قلنا إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالا.
فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم المتحيز والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه إن كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه أو متحركا عنه ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع و لا افتراق وما جاور أو باين فقد تناهى ذاتا والمتناهي إذا خص بمقدار استدعى مخصصا وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات وهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختص بالأجرام وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها.قلنا ذاته تعالى لا تقبل أن يخلق فيها شيء ولا أن يحل فيها شيء والفصل من حيث الحس يوجب عليه ما يوجب على الجواهر ومعنى الحيز أن الذي يختص به يمنع مثله أن يوجد وكلام هؤلاء كله مبني على الحس وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط" ا.هـ
تنبيه: روى الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في: "الأسماء والصفات"(ص/427) أنه قال: "الله على العرش وليس في كل مكان. فقيل له بحد؟ قال: بحد"انتهى. فالمراد ب(الحد) هنا الدليل السمعي. كما قال البيهقي رحمه الله تعالى.
فائدة: قال الحافظ التاج السبكي رحمه الله تعالى في: "طبقات الشافعية"( 3/132- طبعة البابي – ترجمة:ابن حبَّان) :
((… فاعلم أن أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهَروي ، الذي تُسمِّيه المجسِّمةُ: شيخَ الإسلام ، قال: سألتُ يحيى بن عَمَّار عن ابن حِبّان ، قلتُ : رأيتَه ؟ قال : كيف لم أره ؟! ونحن أخرجناه من سِجِسْتان ، كان له علم كثير ، ولم يكن له كبيرُ دين ، قَدِم علينا ، فأنكر الحدَّ لله ! فأخرجناه مِن سجستان . انتهى )). وعلق الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في: "ميزان الإعتدال"(3/507 -ترجمة: ابن حبان) على قول يحيى بن عمار "… نحن أخرجناه من سِجستان لأنه أنكر الحدَّ لله" ما نصه:" قلتُ : إنكارُه الحَدَّ ، وإثباتُكم للحَدِّ نوع من فضول الكلام ، والسكوتُ عن الطَّرفين أَولى ، إذ لم يأت نَصٌّ بنَفْي ذلك ولا إثباته ، واللهُ تعالى ليس كمثله شيء. فمن أَثْبَتَه قال له خصمهُ : جعلتَ للهِ حدَّاً برأيك ، ولا نصَّ معك بالحد ، والمحدودُ مخلوقٌ ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وقال هو – أي مُثبِتُ الحد لله تعالى – للنافي : ساويتَ ربّكَ بالشيءِ المعدوم ، إذ المعدومُ لا حَدّ له ، فمن نزّه الله وسكَتَ سَلِمَ وتابَعَ السلف ". انتهى كلام الذهبي.وتعقَّب الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في "لسان الميزان"(5/144) الذهبي فقال:" وقوله -أي الذهبي- : (قال هو للنافي: ساويتَ ربّك بالشيء المعدوم ، إذ المعدومُ لا حدَّ له ) نازِلٌ ، فإنَّا لا نُسلِّم أن القول بعدم الحدِّ يُفضي إلى مساواتِهِ بالمعدوم ، بعد تحقُّق وجوده . والحقُّ أن الحقَّ مع ابن حبان ". انتهى
وصل: الله منزه عن الجسمية ولوازمها كالقول إن لله جسما أو مكانا يحويه، ودلائل ذلك قطعية، يقول العلامة البيضاوي رحمه الله تعالى -كما في: " فتح الباري" (3/ 31)- : "ثبت بالقواطع-أي:البراهين القطعية- أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز"انتهى المراد. وإجماع أهل السنة والجماعة على ذلك،يقول أبو منصور البغدادي رحمه الله تعالى في: "الفرق بين الفرق" (ص/ 333) : " وأجمعوا – يعني: أهل السنة – على أن الله لا يحويه مكان ،ولا يجري عليه زمان" انتهى.
ثم إن أقوال السلف الصالح والأئمة في تقرير ذلك كثيرة، ومنها : قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما "الفرق بين الفرق"(ص333) : "كان الله ولا مكان ، وهو الآن على ما- عليه- كان- أي بلا مكان-"انتهى. وقول زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم-كما في: " إتحاف السادة المتقين" (4/ 380)- : "أنت الله الذي لا يحويك مكان"انتهى . وقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه -كما في: "إتحاف السادة المتقين" (2/ 24)- : "إنه تعالى كان ولا مكان فخلق المكان وهو على صفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان لا يجوز عليه التغيير في ذاته ولا التبديل في صفاته"انتهى.وقول الحافظ ابن حبان رحمه الله تعالى في: "الثقات" (1/ 1) : "الحمد لله الذي ليس له حد محدود فيحتوى، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان ولا يشتمل عليه تواتر الزمان"انتهى.وقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى-كما في:
"طبقات الشافعية الكبرى"(8/ 219)- : "ليس الله بجسم مصوَّر ، ولا جوهر محدود مُقدَّر ، ولا يشبه شيئا ، ولا يُشبهه شىءٌ ، ولا تحيط به الجهات ، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات ، كان قبل أن كوَّن المكان ودبَّر الزمان ، وهو الآن على ما عليه كان"انتهى.وقول الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في: "صيد الخاطر"(ص47 ) : "الواجب علينا أن نعتقد أن ذات الله تعالى لا يحويه مكان"انتهى المراد.وقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى -كما في: "المقاصد الحسنة"(ص 342)- : "الله سبحانه وتعالى منزه عن الحلول في الأماكن ، فإنه سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن" انتهى.
ولا يتوهم من نفي التجسيم ولوازمه رد الأخبار الثابتة، لكون المتبادر للذهن الجسمية، كقول الله سبحانه : ( ثم استوى على العرش ) ، بل يقال فيها نحو ما قرره الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في: "التفسير"( 2 / 211 ) بقوله: " وأما قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى" انتهى.
تمت بحمد الله