Search
Close this search box.

رد الطعن في فقه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

طَعَنَ جماعةٌ في فِقْه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه واجتهاده،وألحقوه بأهل الرواية والظاهر،كقول ابن خلدون رحمه الله تعالى في: “مقدمة تاريخه”(ص/440) : “فأما مذهب أحمد، فمقلده قليل، لبعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض“انتهى.

  وهي مقالةٌ يتعجَّب منها العارف بالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ومذهبِه؛لذا قال أبوالوفاء بن عقيل رحمه الله تعالى –كما في “ذيل طبقات الحنابلة” (1/347)لابن رجب-: “ومِنْ عجَبٍ مانسمعه من هؤلاء الأحْداث الجُهَّال أنهم يقولون: (أحمد ليس بفقيه لكنه محدثّ!) ،وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خَرَجَ عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه مالا تراه لأحد منهم، …ومايَقْصد هذا إلا مبتدع قد تمزَّقَ فؤادُه من خمُول كلمته وانتشار علم أحمد حتى أن أكثر العلماء يقولون: (أصلي أصل أحمد وفرعي فرع فلان) فحسبك بمَنْ يَرْضى به في الأصول قدوة”ا.هـ وقد وقع الاتفاق بين المسلمين على أن الحق منحصر في هذه المذاهب(_أي المذاهب الأربعة_) وحينئذ فلا يجوز العمل بغيرها، فلا يجوز أن يقع الاجتهاد إلا فيها” ا.هـ. وقال الشمس ابن مفلح رحمه الله تعالى في” الفروع ” (11/103) : “وفي

بل إن ابن خلدون رحمه الله تعالى في: “المقدمة”(ص/355) قرَّره بقوله: “ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه لَمّا كثر تشعّب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرّحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب .. ومُدّعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليدهانتهى.

والثاني: شهادة أئمة الفقه والأصول بذلك، ومنهم الإمام الشافعي رضي الله عنه،ففي “طبقات الحنابلة”(1/10) مانصُّه: “قال الربيع بن سليمان : قال لنا الشافعي : أحمد إمام في ثمان خصال : إمام في الحديث ، إمام في الفقه ، إمام في اللغة ، إمام في القران ، إمام في الفقر ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في السنة.

ثم العالم بالإمام أحمد ومذهبه لابد أن يُذعِن لذلك، يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في رسالة: “الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة” (ص/ ) ” ومن تأمل كلامه في الفقه وفهم مأخذه ومداركه فيه ، علم قوة فهمه واستنباطه . ولدقة كلامه في ذلك ربما صعب فهمه على كثير من أئمة أهل التصانيف ممن هو على مذهبه ، فيعدلون عن مآخذه الدقيقة إلى مآخذ أخر ضعيفة يتلقونها عن غير أهل مذهبه ، ويقع بسبب ذلك خلل كثير في فهم كلامه وحمله على غير محامله . ولا يحتاج الطالب لمذهبه إلا إلى إمعان وفهم كلامه .
وقد رؤى من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب ، وكيف لا ولم يكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كلام إلا وقد علمه وأحاط علمه به وفهم مأخذ تلك المسألة وفقهها ، وكذلك كلام عامة فقهاء الأمصار وأئمة البلدان – كما يحيط به معرفته-كمالك ، والأوازاعي ، والثوري ، وغيرهم .
وقد عرض عليه عامة علم هؤلاء الأئمة وفتاويهم ، فأجاب عنها وجماعة عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره ، فأجاب عنها . وقد نقل ذلك عنه حنبل وغيره . وإسحاق بن منصور عرض عليه عامة مسائل الثوري ، فأجاب عنها . وكان أولاً قد كتب كتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها وفهم مآخذهم في الفقه ومداركهم ، وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مدة وأخذ عنه“انتهى.

وهذا ما جعل الكثير يأخذ بمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه في الفروع، يقول ابن بدران رحمه الله تعالى في: “المدخل”(ص/ ) :  

العقد الثاني في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره:
هذا العقد له مدخل عظيم لمن يريد التمذهب بمذهب أحمد وما ذلك إلا لأن الداخل على بصيرة في شيء أعقل من الداخل فيه على غير بصيرة وأبعد عن التعصب والتقليد المحض وكل إنسان يختار لمطعمه وملبسه وحوائجه الضرورية فلأن يختار ويحتاط لدينه أولى.
ولما كان المقلد لا رأي له ولا ترجيح وإنما نصيبه من العلم أن يقول قالوا فقلنا، أثبتنا له هذا العقد ليتزين به ونصبنا له هذا السلم أملًا بأنه إن ترك التعصب الذميم والجهل المركب ارتقى قليلًا إلى درجات أوائل العلم ولاح له لمعان من نور الهدى فيجره اختيار المذهب إلى اختيار بعض الفروع بالدليل والبرهان فيكون حينئذ من المفلحين ويتزحزح عن نار الغفلة والتقليد الأعمى المذموم على لسان كل عاقل له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإليك بيان ما نوهنا به وأشرنا إليه :
قال الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي أحد المجتهدين في مذهب أحمد في كتاب «المناقب» في الباب السابع والتسعين منه:
اعلم وفقك الله أنه مما يتبين الصواب في الأمور المشتبهة لمن أعرض عن الهوى والتفت عن العصبية وقصد الحق بطريقه ولم ينظر في أسماء الرجال ولا في صيتهم فذلك الذي ينجلي له غامض المشتبه فأما من مال به الهوى فعسير تقويمه. 
واعلم أننا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين فرأينا هذا الرجل يعني الإمام أحمد أوفرهم حظا من تلك العلوم فإنه كان من الحافظين لكتاب الله عز وجل وقرأه على أساطين أهل زمانه وكان لا يميل شيئا في القرآن ويروي قوله صلى الله عليه و سلم «أنزل القرآن فخمًا ففخموه» 
وكان لا يدغم شيئًا في القرآن إلا «اتخذتم» وبابه كأبي بكر، ويمد مدا متوسطا.
وكان رضي الله عنه من المصنفين في فنون علوم القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر في القرآن وجوابات القرآن والمسند وهو ثلاثون ألف حديث وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إمامًا. 
والتاريخ وحديث شعبة والمناسك الكبير والصغير وأشياء أخر.
وقال عبد الله: قرأ علينا أبي المسند وما سمعه منه غيرنا وقال لنا: هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه فيه وإلا فليس بحجة. 
قال ابن الجوزي: وأما النقل فقد سلم الكل له بانفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظه منه ومعرفة صحيحة من سقيمه وفنون علومه وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك ومن أراد معرفة مقام أحمد في ذلك من مقام مالك فلينظر فرق ما بين المسند والموطأ. 
وقال ابنه عبد الله: سمعت أبا زرعة يقول كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث بتكرير الألف مرتين. فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. 
وقيل لأبي زرعة: مَن رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حزمت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان وفي بطنها حدثنا فلان وكل ذلك كان يحفظه أحمد عن ظهر قلبه. 
قال ابن الجوزي: وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة ومن نظر في كتاب العلل لأبي بكر الخلال عرف ذلك ولم يكن هذا لأحد من بقية الأئمة. 
وكذلك انفراده في علم النقل بفتاوى الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا تنازع في ذلك. 
وأما علم العربية فقد قال أحمد: كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني
وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه.
قال أبو القاسم بن الجَبُّلي: أكثر الناس يظنون أن أحمد إنما كان أكثر ذكره لموضع المحبة وليس هو كذلك كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كان علم الدنيا بين عينيه. 
وقال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن يرى الناس مثلهم أبدًا وتعجز النساء أن يلدن مثلهم رأيت أبا عبيد القاسم ابن سلام فما مثلته إلا بجبل نفح فيه روح ورأيت بشر بن الحارث فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا ورأيت أحمد بن حنبل فرأيته كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء. 
وقال أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد. 
قال الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها، وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة.
قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي: ومن عجيب ما نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاركهم وربما زاد على كبارهم .
ثم ذكر ابن عقيل مسائل دقيقة مما استنبطه الإمام، ثم قال: ومما وجدنا من فقه الإمام أحمد ودقة علمه أنه سئل عن رجل نذر أن يطوف بالبيت على أربع قال يطوف طوافين ولا يطوف على أربع.
فانظروا إلى هذا الفقه كأنه نظر إلى المشي على أربع فرآه مُثلة وخروجًا عن صورة الحيوان الناطق إلى التشبيه بالبهائم، فصانه، وصان البيت والمسجد عن الشهرة ولم يبطل حكم القضية في المشي على اليدين بل أبدلها بالرجلين اللتان هما آلة المشي. 
ثم ذكر مسائل من هذا القبيل، ثم قال: ولقد كانت نوادر أحمد نوادر بالغة في الفهم إلى أقصى طبقة، قال: ومَن هذا فقهه واختياراته لا يحسن بالمنصف أن يغض منه في هذا العلم وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمول كلمته وانتشار علم أحمد حتى إن أكثر العلماء يقولون أصلي أصل أحمد وفرعي فرع فلان فحسبك ممن يرضى به في الأصول قدوة. 
قال ابن الجوزي: إن أحمد ضم إلى ما لديه من العلم ما عجز عنه القوم من الزهد في الدنيا وقوة الورع ولم ينقل عن أحد من الأئمة أنه امتنع من قبول أوقاف السلاطين وهدايا الإخوان كامتناعه ولولا خدش وجوه فضائلهم رضي الله عنهم لذكرنا عنهم ما قبلوا ورخصوا بأخذه. 
وقد عقد ابن الجوزي في مناقبه بابًا خاصا في بيان زهده في المباحات.
ثم إنه ضم إلى ذلك الصبر على الامتحان وبذل المهجة في نصرة الحق ولم يكن ذلك لغيره. وقد أخرج أبو نعيم الحافظ عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال قال لي محمد بن الحسن صاحبنا أعلم أم صاحبكم؟ قلت: تريد المكابرة أم الإنصاف؟ قال: بل الإنصاف.
فقلت له: فما الحجة عندكم؟ قال: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
قال: قلت: أنشدك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: إذا أنشدتني بالله فصاحبكم. قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم. قلت: فصاحبكم أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم. قلت: فبقي شيء غير القياس؟ قال: لا. قلت: فنحن ندعي القياس أكثر مما تدعونه، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس. قال: ويريد بصاحبكم مالكًا.
قال ابن الجوزي: فقد كفانا الشافعي رضي الله عنه بهذه الحكاية المناظرة لأصحاب
أبي حنيفة، وقد عرف فضل صاحبنا على مالك فإنه حصّل ما حصّله مالك وزاد عليه كثيرا وقد ذكرنا شاهد هذا باعتبار المسند مع الموطأ.
وقد كان الشافعي عالما بفنون العلوم إلا أنه سلم لأحمد علم النقل الذي عليه مدار الفقه. 
وقد روى ابن الجوزي عن عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: قال لي الشافعي: أنتم أعلم بالحديث منا فإذا صح الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه.
وأخرج هذه الحكاية الطبراني وأبو نعيم الحافظ. 
وروى الطبراني أن أحمد كان يقول: استفاد منا الشافعي ما لم نستفد منه.
وأخرج الحافظ ابن عساكر عن الحسن بن الربيع أنه قال: أحمد إمام الدنيا. وقال: لولا أحمد لأحدثوا في الدين. وقال: إن لأحمد أعظم منة على جميع المسلمين وحق على كل مسلم أن يستغفر له.
قلت: وقد ذكرنا كثيرًا من مناقبه في كتابنا تهذيب تاريخ ابن عساكر.
قال ابن الجوزي: قلت: فهذا بيان طريق المجتهدين من أصحاب أحمد لقوة علمه وفضله الذي حث على اتباعه عامة المتبَعين … قلت وهذا باب واسع جدا. 
وذكر ابن الجوزي من هذا كثيرًا، ثم قال: هذا قدر الانتصار لاختيارنا لمذهب أحمد ورحمة الله على الكل وللناس فيما يعشقون مذاهب. 
وكان الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي يقول: هذا المذهب يعني: مذهب أحمد إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحمد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات فكانت الولاية سببًا لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب أحمد فإنه قل فيهم من يعلم بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم فينقطعون عن التشاغل بالعلم. اهـ

والحاصل: أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من فقهاء الأمة،ومذهبه في الفروع قائم مشهور،ولا عبرة بخلاف من خالف، لذا علّق الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى على مقولة ابن عقيل السابقة في: “سير النبلاء”(11/321) بقوله: ” قال ابن عقيل: من عجيب ما سمعتُه عن هؤلاءِ الأحداث الجهال، أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنَّه محدِّث.
قال: وهذا غاية الجهل، لإنَّ له اختياراتٍ بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرُهم.
وربما زاد على كبارهم.
قلت :أحسِبهم يظنُّونه كان محدثا وبَسْ _قال المجد في القاموس :” بَسْ : بمعنى حَسْب”_، بل يتخيَّلونه من بابَّة محدِّثي زمانِنا!
ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، 
وفي الزهد والورع رتبة الفضيل، وإبراهيم بن أدهم، 
وفي الحفظ رتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني.
ولكنَّ الجاهل لا يعلم رتبةَ نفسهِ، فكيف يعرف رتبةَ غيره ؟ ! “انتهى

وأما نسبة مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه للظاهرية فسببه أخذه بالأحاديث كلٌّ على موردِه عند التعارض، بخلاف أبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم أجمعين، حيث إن الإمام أباحنيفة يُفرِّق بين ماكان على القياس من الأحاديث ومالم يكن،فيأخذ بالأول دون الثاني. وأما الإمام مالك رضي الله عنه فيأخذ من الأحاديث مايوافق عمل أهل المدينة، والإمام الشافعي رضي الله عنه يحكم بقول أهل الحجاز في ذلك إلا مسائل له فيها قولان.

وفي بيان ذلك يقول العلامة شاه عبدالعزيز رحمه الله تعالى في: “فتاويه” (ص/76) :اعلم أن المجتهدين الباحثين عن دلائل الأحكام الشرعية ومآخذها، لما رأوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم متعارضة، وآثار الصحابة والتابعين مختلفة، وهي أعم المآخذ وأكثرها في الأحكام: تحيروا واختلفت آثارهم في وجه التفصي_أي: الخروج_عن هذا التعارض والإختلاف.

فالذي اختاره مالك رحمه الله تحكيم عمل أهل المدينة…والذي اختاره الشافعي رحمه الله تحكيم أهل الحجازوالذي اختاره أحمد بن حنبل رحمه الله إجراء كل حديث على ظاهره، لكنه خصصها بمواردها مع اتحاد العلة، وجاء مذهبه على خلاف القياس، واختلاف الحكم مع عدم الفرق، ولذلك نسب مذهبه إلى الظاهرية.
وأما الذي اختاره أبو حنيفة رحمه الله وتابعوه: هو أمر بين جدا، وبيانه: أنا إذا تتبعنا فوجدنا في الشريعة صنفين من الأحكام، صنف هي القواعد الكلية المطردة المنعكسة…وصنف وردت في حوادث جزئية، وأسباب مختصة، كأنها في منزلة الإستثناء من تلك الكليات، فالواجب على المجتهد أن يحافظ على تلك الكليات، ويترك ماوراءها…”انتهى.

فائدة: ممن نقض كلام ابن خلدون المذكور العلامة أبو زهرة الأزهري رحمه الله تعالى في كتابه: “الإمام أحمد بن حنبل” ، ولنفاسة ما قرَّره فيه أنقله هنا، حيث قال( ص 352) :قال فيلسوف التاريخ الإسلامي ابن خلدون في مذهب أحمد من حيث قلة أتباعه في البلاد الإسلامية: “فأما مذهب أحمد فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض” وترى من هذا أن فيلسوف المؤرخين يضرب على نغمة الذين أنكروا على أحمد وصف الاجتهاد وعدوه من علماء الحديث لا من الفقهاء لهذا الا عتبار فهو وإن كان لا يخرجه من زمرة الفقهاء يصف فقهه بأن الاجتهاد فيه قليل وأنه يغلب عليه الرواية والأخبار …. وقد ذكرنا أن هذه القضية غير مسلمة وبينا أن أحمد رضي الله عنه كان فقيهاً وكان مجتهداً وكان اجتهاده مبنياً على أسس سليمة من السنة المروية والآثار الصحاح الثابتة من أقضية الصحابة والتابعين فكان يبني على ما علم من أخبار ويقيس عليها… وعلى ذلك نقرر أن ابن خلدون لم ينصف أحمد عندما أشار بقلة اجتهاده وكثرة رواياته ليفهم أنه كان محدثاً أكثر مما كان فقيهاً أو فقهه فقه رواية لا فقه دراية.
ولقد أخطأ ابن خلدون مرة ثانية عندما حكم بأن قلة التابعين له سببها قلة اجتهاده فإن هذه القضية في ذاتها غير سليمة فإن العامة لا يختارون من يقلدون اختياراً منشؤه الموازنة بين الأدلة ومعرفة مقدار فقه الفقيه فما كان تقليد عامة أهل مصر أو الشام للشافعي منشؤه الموازنة الصحيحة بين مقدار اجتهاد الشافعي واجتهاد غيره وكذلك يقال في مالك وأبي حنيفة.
إنما كثرة المقلدين وقلتهم ترجع الى أمور سياسية أو اجتماعية سهلت نشر المذهب أو صعبت ذلك
واذا كان مذهب أحمد لم ينتشر كغيره من المذاهب فذلك لملابسات لم يكن مقدار اجتهاده ذا تأثير فيها وما كان لمثل ابن خلدون أن يقحم مقدار الاجتهاد في ذلك المقام“.

وقال أيضا (ص/ 392) :وهنا يثار سؤال لم كانت هذه القلة ؟ ولقد أثار الباحثون ذلك السؤال وتصدوا للإجابة عنه وقد أجاب ابن خلدون عنه فقال:” فأما مذهب أحمد فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية للحديث
وقال أيضا:
وإن ذلك لا يصلح تعليلاً لهذه العلة لأن الأصل غير صحيح فليس ذلك المذهب قليل الاجتهاد فقد علمنا أنه المذهب الذي فتح باب الاستنباط على مصراعيه في غير النص، وأن كثرة المتقدمين أو كلهم هم الذين قرروا أن باب الاحتهاد المطلق لا يغلق قط . وأنه ظهر فيه العلماء الذين درسوا أعراف الناس في العصور المختلفة وواءموا بينها وبين مصادر الشرع واستنبطوا تحت ظل الكتاب والسنة ومن أضوائهما أحكاما صالحة متناسبة .
وإن مصر عندما أرادت تعديل المعمول به في الأحوال الشخصية والوقف والمواريث والوصايا وجدت في هذا المذهب معيناً لا ينضب من الأحكام الصالحة فاقتبست منها الكثير بل لقد اقتبس منه مايعد تجديداً للمعمول به تجديداً يوافق بعض المطالب الاجتماعية التي يطالب بها بعض الباحثين في الاجتماع فلقد اقترحت لجنة الأحوال الشخصية التي ألفت سنة 1926 العمل به فيما يتعلق بلزوم شروط الزواج التي تشترطها المرأة كألا يتزوج عليها ونحو ذلك ولكن لم يؤخذ بذلك الاقتراح لأنه تجديد لم تكن قد تهيأت الأذهان له.
وإن سلمنا صحة هذه الدعوى التي يدعيها ابن خلدون تسليماً جدلياً فقررنا أن الاجتهاد في المذهب الحنبلي قليل مع أن كل الأسباب التي بين أيدينا تناقض ذلك، فلن نسلم أن العامة يتبعون المذاهب لقلة الاجتهاد أو كثرته إنما العامة يتبعون المذاهب لوجود الدعاة إليها وذوي السلطان المعتنقين لها وعندئذ يكون العامة تابعين لهم وقد توجد أحوال أخرى غير السلطان أذاعت المذهب أو أخملته عند العامة ولكنها شؤون تتصل بسياسة الاجتماع وشؤون الجماعة… وليس لكون الاجتهاد قليلا أو كثيرا دخل في القلة أو الكثرة لأن العامة لا يدرسون الدليل”انتهى المراد

والله أعلم.

وكَتَبَ/

(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به

الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها الله

 

تمت بحمد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *