بسم الله الرحمن الرحيم
ذهبتْ طائفةٌ إلى الإحتجاج بترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التحريم،ويَتمسَّكون بنحو قول أبي المظفر السمعاني رحمه الله تعالى في: “قواطع الأدلة”(1/311) : “إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الأشياء وجب علينا متابعته فيه”انتهى المراد.
ويُرد ذلك بأن للترك صورتين:
أما الأولى: فهي أن يتَجرَّد عن القرائن. فهذه لا تُوجب المنع عند الفقهاء،وفي ذلك يقول ابن بطال رحمه الله تعالى –كما: “فتح الباري”(9/13)-: “ان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تجرد عن القرائن،وكذا تركه-لايدل ذلك على وجوب ولا تحريم”انتهى.
ولهذا الحكم علَّةٌ عند الفقهاء-أبان عنها الزواوي رحمه الله تعالى بقوله: “الترك لا يدل على المنع؛لأنه قد يكون لا لمعنى من المعاني،أو لعدم الحاجة إليه في ذلك الوقت،أو لمعنى عادي أو طبَعي”انتهى من : “شرح الموطأ”(3/316)للزرقاني رحمه الله تعالى.
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة،فمسألة جمْعِ الصحابة للقرآن الكريم مع ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم له من الأمثلة المشهورة، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في: “فتح الباري”(9/14) : “وقد فهِم عمرُ أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمعه للقرآن-لا دلالة فيه على المنع،وقد رجع إليه أبوبكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك،وأنه ليس في المنقول ولا في المعقول ما ينُافيه”انتهى المراد.
وأما الثانية: فهي ألا يتجرَّد التركُ عن القرائن.فهذه يكون الترك فيها مقصودا، والمُقرَّر عند الفقهاء أن الترك إذا كان مقصودا صار فعلا،فيأخذ حكمَ الأفعال،يقول البدر الزركشي رحمه الله تعالى في: “المنثور في القواعد”(1/284) : “الترك فعلٌ إذا قُصِد”انتهى.
وعليه فإن حكم الترك هنا يختلف بإختلاف القرائن؛يقول أبو البقاء ابن النجار رحمه الله تعالى في: “شرح مختصر التحرير”(2/165) : “وإذا نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك كذا كان أيضا من السنة الفعلية،كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله-أمسك الصحابة رضي الله عنهم وتركوه حتى بيَّنَ لهم أنه حلال،ولكنه يَعافه. ولكن هذا النوع مقيَّدٌ بتصريح الراوي بأنه ترك،أو قيام القرائن عند الراوي الذي يروي عنه أنه ترك”انتهى.
والحاصل: أن الإحتجاج بالترك على المنع لايصح اطلاقه، فجعْلُ البعض مثلا الدعاء عقِبَ الصلاة المفروضة مُنكَرا لعدم فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له-باطل،وفيه يقول الفقيه المالكي أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب رحمه الله تعالى : “غاية ما يَستنَِد إليه منكرُ الدعاء أدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى صحة تقدير هذا النقل، فالترك ليس بمُوجبٍ الحكْمَ في ذلك المنزوك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريمٌ ولصُوقُ كراهيَّةٍ بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصلٌ جُمْلي مُتقرّر في الشرع كالدعاء”انتهى.
وفي الختام ننبه إلى مسألة تَشْتبه بما نحن بصدده وهي مسألة: السكوت عن البيان بعد تحقُّق الحاجة إليه-فإنه يكون بمنزلة النُّطق،قاله السِّبط ابن الجوزي رحمه الله تعالى في: “إيثار الإنصاف”(ص/259)،وقرَّره العلماءُ كما في:”كشف الأسرار”(1/20)للعلاء البخاري، و”حاشية الشرح الصغير”(4/627)للصاوي،و”حاشية تحفة المحتاج”(2/341)للشرواني،في آخرين.يقول العلامة عبدالله الصديق الغماري رحمه الله تعالى في: “حسن التفهم والدرك لمسألة الترك”(ص/ ) : “ قسم العلماء ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء ما ,على نوعين:
نوع لم يوجد ما يقتضيه في عهده ثم حدث له مقتضى بعده صلّى الله عليه وآله وسلم فهذا جائز على الأصل.
وقسم تركه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع وجود المقتضى لفعله في عهده,وهذا الترك يقتضي منع المتروك,لأنه لو كان فيه مصلحة شرعيّـة لفعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم,فحيث لم يفعله دل على أنه لا يجوز.
ومثَّل ابنُ تيمية لذلك بالأذان لصلاة العيدين الذي أحدثه بعض الأمراء وقال في تقريره :فمثل هذا الفعل تركه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضياً له مما يمكن أن يستدل به من ابتدعه,لكونه ذكراً لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله وبالقياس على أذان الجمعة.
فلما أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بالأذان للجمعة,وصلّى العيدين بلا أذان ولا إقامة,دل تركه على أن ترك الأذان هو السنّة,فليس لأحد أن يزيد في ذلك….الخ كلامه.
وذهب إلى هذا أيضاً الشاطبي وابن حجر الهيتمي وغيرهما,وقد اشتبهت عليهم هذه المسألة بمسألة السكوت في مقام البيان.صحيح أن الأذان في العيدين بدعة غير مشروعة,لا لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تركه ولكن لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم بيّـن في الحديث ما يعمل في العيدين ولم يذكر الأذان فدل سكوته على أنه غير مشروع.
والقاعدة:أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.وإلى هذه القاعدة تشير الأحاديث التي نهت عن السؤال ساعة البيان.
روى البزار عن ابي الدرداء قال:قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم :
“ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا”وما كان ربك نسيّاً“
قال البزار :إسناده صالح ,وصححه الحاكم.
وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ,وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها“
في هذين الحديثين إشارة واضحة إلى القاعدة المذكورة وهي غير الترك الذي هو محل بحثنا في هذه الرسالة,فخلط إحداهما بالأخرى مما لا ينبغي.ولذا بينـتُ الفرق بينـهما حتى لا يشتبه أحد .وهذه فائدة لا توجد إلا في هذه الرسالة ،والحمد لله”انتهى
والله أعلم.
وكَتَبَ/
(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به
الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها الله
تمت بحمد الله