Search
Close this search box.

رد اطلاق المنع من تقسيم البدع لحسن وقبيح

 

 

رد اطلاق المنع من تقسيم البدع لحسن وقبيح

بقلم: خادم الشريعة (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)

 

 

P

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد أنكرت طائفة تقسيم الفقهاء البدع لحسن وقبيح، وادعوا الإجماع على المنع من ذلك؛ لذا أحببت الإشارة إلى الخلاف. والله الموفق لا رب سواه.

     للناس في صحة تقسيم البدع الحادثة مذهبان معروفان :

     أولهما: أن في البدع ما هو سَيّء مذموم ، وما هو حَسَنٌ محمود ، وبه جزم أئمة وعليه عمل الفقهاء فقد أخرج أبو نعيم رحمه الله في "حلية الأولياء" (9/113) عن إبراهيم بن الجنيد أنه قال: سمعت الشافعي يقول : "البدعة بدعتان : بدعة محمودة ، وبدعة مذمومة . فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم" . وقال ابن الأثير رحمه الله في : "النهاية في غريب الحديث" (1/106ـ107): "البدعة بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال . فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله r فهو في حَيِّز الذم والإنكار ، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحضّ عليه الله ورسوله : فهو في حَيِّز المدح" ا.هـ.

        و(البدعة المحمودة) عند القائلين بالقسمة السابقة قد تكون واجبة أو مستحبة . و(البدعة المذمومة) قد تكون مُحَرَّمة أو مكروهة وقد يكون منها ما هو مباح . فتَحَصَّل دورانـها على الأحكام الخمسة ، لذا قال العز بن عبد السلام رحمه الله في : "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/337) : "البدعة فعل ما لم يُعْهَد في عصر رسول اللهr. وهي منقسمة إلى : بـدعة واجبة وبدعة مُحَرَّمة ، وبدعة مندوبة ، وبدعة مكروهة ، وبدعة مباحة . والطريق في معرفة ذلك أن تُعْرَض البدعة على قواعد الشريعة : فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي مُحَرَّمة ، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة ، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة ، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة" أ.هـ. وقال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (6/154ـ155) :"قال العلماء : البدعة خمسة أقسام : واجبة ومندوبة ومحَرَّمة ومكروهة ومباحة" ا.هـ . وقال العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : "تحقيق البرهان" (ص/141) تعليقاً على كلمة : (وكل بدعة ضلالة) : "هذا الكلام ليس على إطلاقه ، بل قيَّده العلماء . قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى : تنقسم إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة " ا.هـ . وارتضاه الحافظ ابن حجر رحمه الله في : "فتح الباري" (13/253) بقوله: "وقَسّم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة ، وهو واضح". وقد قال قبلُ (4/253): "التحقيق : أن البدعة إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع هي مستقبحة ، وإلا فهي من قسم المباح" ا.هـ.

     وأثبت تلك القسمة جَمْعٌ ممن أَلّف في (ذم البدعة) كأبي شامة رحمه الله في : "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص/35) ، والسيوطي رحمه الله في : "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع) (ص/89) وممن ألَّف في (القواعد) كالزركشي رحمه الله في : "المنثور في القواعد" (1/218) ، وابن جُزيّ رحمه الله في : "قوانين الأحكام" (ص/19) . وممّن ألَّف في (الفروق) كالقرافي رحمه الله في : "الفروق" (4/202ـ205) ، ومحمد علي بن الحسين المكي رحمه الله في: "القواعد السَّنية في الأسرار الفقهية" (4/217ـ فما بعد) . وممن أَلَّف في (الفتاوي) كابن حجر الهيتمي رحمه الله في : "الفتاوي الحديثية" (ص/150) ، والسيوطي رحمه الله في : "الحاوي" (1/192) ، وممن أَلَّف في (المصطلح) كالسخاوي رحمه الله في : "فتح المغيث" (2/327) ـ وغير ذلك كثير .

        وعليه فقد يقال عن شيء : إنه بدعة ، مع استحسانه . ومما يَصْلح على ذلك مثلاً : عَدّ الذكر بالسبحة إذا حَسُنت فيه النية ؛ حيث ذهب الجمهور إلى استحسان ذلك ، وبه جزم التقي ابن تيمية رحمه الله ـ كما في : "مجموع الفتاوي (22/506) ـ حيث قال : "وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه : فمن الناس من كرهه ، ومنهم من لم يكرهه ، وإذا حَسُنت فيه النيَّة فهو حسن غير مكروه" ا.هـ . وأما المَنْع من ذلك على وَجْهِ تحريم : فقال عنه السيوطي رحمه الله في : "الحاوي" (2/5) : "ولم يُنْقَل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عَدِّ الذكر بالسُّبْحة ، بل كان أكثرهم يَعُدّون بـها ، ولا يَرَوْن ذلك مكروهاً" ا . هـ . لذا جزم جماعة بشرعية (عَدّ التسبيح بالسبحة) وجوازِهِ ، ومنهم : الشوكاني رحمه الله في : "نيل الأوطار" (2/353) وغيره .

   

     والثاني: أن جميع البدع سيئة ومذمومة ، ولا صِحَّة لتقسيمها إلى حسنة وقبيحة . وهو ظاهر رواية عن الإمام مالك كما في : " الفروق " للقرافي رحمه الله (4/229) ، والإمام أحمد رحمه الله كما في : " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " للالكائي رحمه الله (1/156) . وبه جزم جماعة ، ومنهم : التقي ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه ، ومنها قوله في : "الاقتضاء" (2/87) : "واعلم أن هذه القاعدة ، وهي : الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته ، قاعدة عامة عظيمة ، وتمامها بالجواب عما يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول :البدع تنقسم إلى قسمين : حسنة وقبيحة ؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح : "نعمت البدعة هذه"، وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله r ، وليست بمكروهة ، أو هي حسنة ؛ للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس . وربما يضم إلى ذلك مَنْ لم يحكم أصول العلم : ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها ، فيجعل هذا أيضاً من الدلائل على حسن بعض البدع ، إما بأن يجعل ما اعتاد هو ومن يعرفه إجماعاً ، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك ، أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من )إذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا (وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها . والغرض : أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دَلّ على حسن بعض البدع ، إما من الأدلة الشرعية الصحيحة ، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين ، أو المتأولين في الجملة .

     ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان : أحدهما : أن يقولوا : فإذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح ، فالقبيح ما نـهى عنه الشارع ، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح ، بل قد يكون حسناً . فهذا مما يقوله بعضهم .

        والمقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة : وهذه البدعة حسنة ؛ لأن فيها من المصلحة كيت وكيت . وهؤلاء المعارضون يقولون : ليست كل بدعة ضلالة . والجواب : أما القول : إن شر الأمور محدثاتـها ، وإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله r، فلا يَحِل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ، ومن نازع في دلالته فهو مراغم" ا.هـ.

        وانتصر لذلك وقرره : الشاطبي رحمه الله في : "الاعتصام" ، ومن ذلك إبطاله لقِسْمة البدعة إلى خمسة أقسام حيث قال (1/191ـ192) : "هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع ؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لَمَا كان ثَمّ بدعة ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بـها أو المُخيَّر فيها . فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدل على وجوبـها أو ندبها أو إباحتها : جمع بين متنافيين" ا.هـ.

        وعلى كلٍ : فإن الإحداث في الدين ، مما يُنْسَب إلى الإسلام وهو منه بريء : ضلال ، وبرهان ذلك قول النبي r  : "كل بدعة ضلالة" أخرجه مسلم . قال التقي ابن تيمية رحمه الله في : "الاقتضاء" (1/93) : "ولا يَحِل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله  r الكلية ، وهي قوله : "كل بدعة ضلالة" بسَلْب عمومها ، وهو أن يقال : ليست كل بدعة ضلالة . فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل" ا.هـ .

        وما وقع من استحسان السلف أو بعضهم لبدعةٍ فهي على خلاف ما سبق ، ومنه قول الحافظ ابن رجب رحمه الله في : "جامع العلوم والحكم" (2/291فما بعد) : "وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع : فإنما ذلك من البدع اللغوية لا الشرعية" ا.هـ .

        فائدة: لما كان كتاب "الاعتصام" للشاطبي رحمه الله : وحيداً في بابه في إنكار قواعد ومسائل تتعلّق بالبدعة شَنّع عليه علماء، حتى قال  الشيخ عبد الله الصديق الغماري رحمه الله-وهو من متأخري المالكية- في كتابه : "القول المبين" : "قَسّم عز الدين ابن عبد السلام في قواعده الكبرى البدعة باعتبار استعمالها على المصلحة والمفسدة ، أو خُلُوّها عنهما إلى أقسام الحكم الخمسة : الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة ، ومَثّل لكل قسم منها ، وذكر  ما يشهد له من قواعد الشريعة . وكلامه في ذلك كلام ناقد بصير ، أحاط خُبْراً بالقواعد الفقهية، وعرف المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها . ومن مثل سلطان العلماء في معرفة ذلك ؟ فجاء تقسيمه للبدعة مؤسساً على أساسٍ من الفقه وقواعدِهِ متين؛ ولذا وافقه عليه الإمام النووي والحافظ ابن حجر وجمهور العلماء تَلقّوا كلامه بالقبول ، ورأوا أن العمل به متعين في النوازل والوقائع التي تحدث مع تطور الزمان وأهله ، حتى جاء صاحب (الاعتصام) فخرج عن جمهرة العلماء ، وشَذّ بإنكار هذا التقسيم فَبَرْهَن بـهذا الإنكار على أنه بعيد عن معرفة الفقه ، بعيد عن قواعده المبنيَّة على المصالح والمفاسد لا يعرف ما فيه مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله ، ولا يَدْري ما فيه مفسدة فيطلب اجتنابـها بتركه ولا ما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء . وأخيراً برهـن على أنه لم يَتَذوَّق علم الأصول تذوقاً يمكّنه من معرفة وجوه الاستنباط ، وكيفية استعمالها ، والتصرف فيها بما يناسب الوقائع ، وإن كان له في الأصول كتاب (الموافقات) فهو كتاب قليل الجدوى ، عديم الفائدة ، وإنما هو بارع في النحو له فيه شرح على ألفية ابن مالك في أربعة مجلدات دَلَّ على مقدرته في علم العربية ، على أنا وإن كنا نعلم أن للشاطبي دراية بعلم أصول الفقه على سبيل المشاركة : فلا نشك في أن سلطان العلماء فيه أمكن ، وعلمه بقواعده أتم ، وقواعده الكبرى خير شاهد على ذلك" ا.هـ . 

تمت بحمد الله

  

0 Responses

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *