¤ مَن يَشتَرط أَنْ يَعتَضد المُرسَل بعاضدٍ حتّى يُحتَجَّ به في الفُروع= هو الإِمامُ الشافعيُ رضي الله عنهّ خلافاً لجُمهور الفقهاء؛ لذا قال أَبو زَكريّا النَّووي رحمه الله:” يَحْتَجُّ الشَّافِعِيِّ بِالْمُرْسَلِ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: إمَّا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ،وَإِمَّا مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ،وَإِمَّا قَوْلُ صَحَابِيٍّ،وَإِمَّا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ” انتهى من:”شَرْح المُهَذَّب”(6/ 206).
¤ثُمّ إِليكَ تَلخيصَ المَسألة في النَّقل التّالي:
▪️قال الحافظ الشُّمُنّي القُسَنْطِينيّ (ت/ 821 هـ)رحمه الله في:”نتيجة النظر”(ص/ 148 فمابعد-انتصار القيسي):
“وقد اختلفَ العلماءُ في الاحتجاج به -أي المُرسل-:
¤فذهبَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأَتباعُهُما، وأحمدُ في أحَدِ قوليه، وفقهاءُ المدينة والعراق في آخرين= إلى أنّ المُرسلَ الثِّقةَ حُجَّةٌ يَجبُ العملُ به،كما يَجبُ العملُ بالمسنَد،لكنْ بشرطِ أن يكونَ لا يُرسِل إلَّا عن الثِّقات،فإنْ كان يُرسِل عن الثّقات وغيرِهم= فلا يُقبَل مُرسَلُه بالاتَفاق كما نقَلَه الباجِيُّ وابنُ خَلْفُون وأَبو بكر الرَّازيّ، وغيرُهم.
واستدلّوا بوجهين:
-أحدهما: أنّ الإرسالَ كان مَشهُورًا بين التّابعين، مَقبولاً عندهم، ولم يُنكِرْهُ أَحدٌ منهم، فكان ذلك إِجماعًا على قَبُولِه.
-الثّاني: أنّ الظّاهرَ مِن حالِ العَدْلِ أنّه لا يُرسِل الحديثَ إلَّا عَمَّن يَعلَمُ عَدالتَه أو يَظُنُّها؛ إذ لو لم يكن عالِمًا بعدالتِه أو ظانًّا لها لَمَا استحلَّ أن يَروِيَ عنه ولا يسمِّيه، مع عِلْمِه أنّ روايته يترتّبُ عليها شرعٌ عام، فيكون سكوتُه عن تسمية مَن حدَّثه به كتزكيتِه، وهو لو زكَّاه قبلنا تزكيتَه
¤وذهَبَ الشّافعيُّ وأحمد في إِحدَى الرِّوايتين عنه، وإِسماعيلُ القاضي مِنَ المالكيَّة، وجُمهورُ أَهلِ الحديث، وكافَّةُ أَصحاب الأصول= إلى عَدَمِ قَبوله، ولهم دليلان:
-الأوّل: أنّ عدالةَ مَنْ أرسل عنه الحديث غيرُ مَعلُومَةٍ، لأنّ عَينَه مَجهولةٌ، والجهلُ بعين الرَّاوي يُوجبُ الجهلَ بصفته، فلا يُقبَل.
-الثّاني: أنّ شهادةَ الفَرْعِ لا تُقبل ما لم يُعيِّنْ شاهدَ الأصل، فكذا الرّواية، وافتراق الشّهادة والرّواية في بعضِ الأمورِ لا يُوجبُ فَرْقًا في هذا المعنى، كما لا يجوب فَرْقًا في عدَم قبولِ روايةِ المجروح والمجهول.
•وأُجيب عن الأوَّل: بأنّ قولكم: (عدالةُ مَن أَرسَلَ عنه غيرُ مَعلُومَة): إنْ أردتُم حقيقةَ العِلْمِ فهو غيرُ مشترَطٍ في العدالة؛ بل يكفي فيه غَلَبَة الظَّنِّ، وإلّا لزِم عدمُ قبولِ المُسنَد، إِذ عدالةُ راويه مَظنونةٌ!
وإن أردتُم الظّنَّ فلا نُسلِّم أنّها غيرُ معلومةٍ بهذا المعنى، لأنّ التّابعيّ العدلّ الثّقة إذا قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ يَظنُّ عدالةَ مَن أرسل عنه، إذ لو استوى عنده عدالتُه وعدمُها لسمَّاه لتكون العُهدة عليه دونه.
•وعن الثّاني: بأنّ الرِّواية تفارقُ الشّهادة في أمورٍ كثيرة، كالعدد، والذُّكوريَّة، والحُرِّيّة، ومراعاة الأهليّة والعداوة، وأنّ شهادة الفرع على شهادة الأصل يُشترط فيها قَوْلُ الأصل للفَرْع: «اشهد على شهادتي»، ولا تُقبل إلّا بموت الأَصل، أو مَرَضه، أو غيبته بمكان لا يَلزَم الأَداء منه، فكما افترقا في هذه الأُمور جاز أن يفتَرِقَا في هذا الحكم أيضًا.
قالوا: وَقَعَ إنكارُ الإرسال مِنَ السَّلف، ففي مُقدِّمة <صحيح مسلم> عن محمّد بن سيرين قال: (كانوا لا يَسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعَتِْ الفتنةُ سأَلوا عنه ليَجْتنبوا روايةَ أهل البدع).
وفيها أيضًا عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنّه أنكر على بشير بن كعب [هو أَحدُ التّابعين] أحاديثَ أَرْسَلَها، وقال: (كنّا نقبَل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلّ أحد، فلمّا ركب النّاس الصّعب والذَّلول لم نقبل عنه إلّا ما نَعرِف).
وكذا أنكر الزُّهريّ على إسحاق بن أبي فروة أحاديث أَرسَلَها فقال: (تأتينا بأحاديث لا خُطُم لَهَا ولا أَزمَّة، أَلاَ تشدُّ حديثك).
وأُجيبَ: بأنّ قولَ مَنْ ذكرتُم ليس إنكارًا للإرسال مُطلَقًا؛ بل لإرسال مَنْ يُظنُّ به أنّه يُرسِل عن الثّقات والضُّعفاء، وفي قولِ ابنِ عبَّاس وابن سيرين ما يدلُّ على ذلك، وذلك غيرُ مَحلِّ النِّزاع.
ثم هو مُعارَضٌ بقول الإمام أبي جعفر محمَد بن جرير الطَّبَريّ: (إنّ التّابعين أجمعوا بأسرهم على قَبُولِ المرسل، ولَمْ يَأْتِ عنهم إنكارُه، ولا عن أحدٍ من الأئمّة بعدهم إلى رأس المائتين).
قال ابن عبدالبَرّ :(كأنه يعني الشّافعي أَوّل من أبى قبول المرسَل).
ومعارَضٌ أيضًا بقول أبي داود في <رسالته إلى أهل مكّة>:(وأما المراسيل فقد كان يَحتجُّ بها العلماء فيما مَضَى مثل سفيان الثّوريّ، ومالك، والأوزاعيّ؛ حتى جاء الشّافعيُّ؛ فتكلَّم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره)
…
فإِنْ قُلتَ: لِمَ عَدَلَ مَن لا يُرْسِل إِلّا عَن ثِقَةٍ عَن تَسْميَةِ مَن أَرْسَلَ عَنْهُ؟
فالجَوابُ: أَنَّ ذلكَ يَحْتَمِلُ أَوْجُهاً:
-أَحدُها: أَنْ يَكونَ سَمعَ الحَديثَ مِن جَماعةٍ مِن الثِّقاتِ، وَصَحَّ عِنْدَهُ=فَيُرْسِلُهُ مُعتَمِداً على ذلكَ…
-وَثانيها: أَنْ يَكونَ نَسِيَ مَن حَدَّثَهُ بِهِ، وهُوَ ذاكِرٌ للْمَتْنِ= فَأَرْسَلَهُ؛ لأَنَّ مِن سُنَّتِه أَنْ لا يَرْويْ إِلّا عَن ثِقَةٍ.
-وَثالثُها: أَنْ يُورِدَ المَتْنَ على وَجْهِ المُذاكَرَةِ، أَوْ على جِهَةِ الفَتْوى؛ لأَنَّهُ المَقْصُودُ حِينَئذٍ دُوْنَ السَّنَدِ”.انتهى المُراد.
وكَتَبَ/
(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به
مِدرَاسُ الحَنَابِلَةِ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها اللهُ