بسم الله الرحمن الرحيم
ومن مسائل (المولد الشريف) : مسألة القيام عند ذكر ولادة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعظيما وإكراما، “و حقيقة قيام المولد: أنه عند سرد المولد الشريف والوصول لذكر وضع أمه له صلى الله عليه و سلم- ينهض جميع من حضر وقوفا على الأقدام، و يبقى الكل على تلك الحالة مدة ليست بقصيرة؛ أكثر من مدة الصلاة على الجنازة بكثير، و القارئ يقرأ المولد وهم يصلون على النبي صلى الله عليه و سلم“]1[
وقد اشتهر القيام في (المولد الشريف) حتى عٌدّ تركه ازراء بمقام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومنه قول المولى أبي السعود رحمه الله تعالى: ” إنه -يعني: القيام عند ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم- في تلك القصص قد اشتهر في تعظيمه صلى الله عليه وسلم واعتيد في ذلك، فعدم فعله يوجب عدم الاكتراث بالنبي صلى الله عليه وسلم وامتهانه، فيكون كفراً مخالفاً لوجوب تعظيمه صلى الله عليه وسلم”]2[ .
وفي المسألة مقالتان:
-الأولى: استحسان القيام. وبه قال أئمة،يقول الزين جعفر البرزنجي رحمه الله تعالى: “قد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمة ذوو رواية ورويّة، فطوبى لمن كان تعظيمه صلى الله عليه وسلم غاية مرامه ومرماه“ ]3[ .
وللسبكي الكبير واقعة في ذلك تناقلها العلماء، وحكاها ابنه التاج رحمه الله تعالى بقوله: “حضر -الوالد- مرة ختمة بالجامع الأموي، وحضرت القضاة وأعيان البلد بين يديه،وهو جالس في محراب الصحابة، فأنشد المنشد قصيدة الصرصري التي أولها:
قليلٌ لمدحِ المصطفى الخطَّ بالذهبِ …………………
فلما قال: وأن ينهضَ الأشرافُ عند سماعه… البيت؛ حصلت للشيخ حالة وقام واقفاً للحال، فاحتاج الناس كلهم أن يقوموا، فقاموا أجمعون”]4[ .
وإنما كان القيام عند ذكر ولادة أم المصطفى به صلى الله عليه وآله وسلم- لأن مابعده من خير بمجيئه صلى الله عليه وآله وسلم كان مرتبا على ذلك،فيكون القيام فيه كافيا عن غيره من الوقائع.
والحجة فيه: قياس القيام لمولده على القيام له عند إبصاره صلى الله عليه وآله وسلم ، ذكره صاحب كتاب: “نهاية الإرشاد بليلة احتفال الميلاد”وغيره.
وقد ثبت قيام الصحابة له صلى الله عليه وسلم ، ومنه حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه” رواه أبو داود (4/247) قال النووي رحمه الله في: “الترخص في الإكرام بالقيام” (ص/44): “اسناد هذا الحديث اسناد صحيح” ثم حسن الحديث.
وانتصر جماعة لاستحسان القيام وأفردوه بالتقرير، كمحمود العطار الدمشقي (ت: 1362)رحمه الله نعالى في كتابه: “استحباب القيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم”، و محمد القاسمي في كتاب: “تحقيق الكلام في وجوب القيام” .
-والثانية: إنكار القيام . وبه قال جماعة، يقول أبوالحسنات اللكنوي رحمه الله تعالى: ” ومنها –أي: الأباطيل – ما يذكرونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بنفسه في مجالس وعظ مولده عند ذكر مولده، وبنوا عليه القيام عند ذكر المولد تعظيماً وإكراماً، وهذا أيضا من الأباطيل لم يثبت ذلك بدليل، ومجرد الاحتمال والإمكان خارج عن حد البيان”]5[ .
وجاء في:” الفتاوى الحديثية” للشهاب الابن حجر الهيتمي مانصه]6[:
((“وسئل نفع الله به عما صورته : رُوي في التفسير أنه لما نزل : ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ) [ النحل : 1 ] وثب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسمعنا من أفواه بعض الناس قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فهل يسنّ لنا إذا قرأناه أن نقوم أو لا ؟ فإن قلتم نعم فهل يختص بالقارىء ، أو يشمل المستمع ، وإن قلتم لا فهل يمنع من ذلك أو لا ؟
فأجاب فسح الله في مدته بقوله:
الذي ذكره الواحدي في أسباب النزول أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انشَقَّ الْقَمَرُ ( [ القمر : 1 ] قال بعض الكفار لبعض : إنَّ هذا يزعم أن القيامة قد قربتْ فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لاينزل عليه شيء قالوا نرى شيئاً . قال : فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ( [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا ينتظرون قرب الساعة . فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوّفنا به ، فأنزل الله تعالى : ) أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( فوثب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع الناس رؤوسهم فنزل : ) فلا تستعجلوه ( فاطمأنوا ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادتْ لتسبقني ) .
وقال آخرون : الأمر هنا هو العذاب بالسيف وهو جواب ( للمنتظرين الحادث ) حين قالوا : ) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ ( [ الأنفال : 32 ] الآية ، يستعجل العذاب فأنزل الله تعالى هذه الآية اه ما ذكره الواحدي رحمه الله . وإذا تأملته علمت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يثب إلا فزعاً من سماع قوله تعالى : ) أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( [ النحل : 1 ] وأنه لم يثب تشريعاً لأمته ليفعلوا مثل فعله . وإذا تقرر أن ذلك الوثوب إنما كان لذلك الفزع ، ولذلك رفع الصحابة رضي الله عنهم رؤوسهم فزعاً ؛ وإن ذلك السبب الذي هو الفزع زال بنزول ) فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ( [ النحل : 1 ] ظهر لك أن الوقوف بعد قراءة الآية غير سنة ، ولأجل ذلك لم ينقل عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عن أصحابه وقوف عند قراءة الآية بعد ذلك فدل على أن فعله ( صلى الله عليه وسلم ) وأفعالهم إنما كان لسبب وقد زال ، وحينئذٍ ففعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي ارتكابها لإيهام العامة ندبها . ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده ( صلى الله عليه وسلم ) ووضع أمه له من القيام وهو أيضاً بدعة لم يرد فيه شيء على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له ( صلى الله عليه وسلم ) فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب”انتهى.
وانتصر لهذا القول جمع في رسائل، يقول الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي رحمه الله تعالى: “ومنه –يعني: الإستحسان المحظور-أيضاً القيام عند ذكر الولادة النبوية، مع ورود النص بل النصوص الصريحة بالنهي عنه، انظر رسالتنا “صفاء المورد في عدم القيام عند سماع المولد”، ورسالتنا “الحق المبين في الرد على من رد عليها” وهو صاحب “حجة المنذرين”]7[. وأيّده محمد العابد السودي(ت/ 1359) برسالة سماها: “ مسامرة الأعلام و تنبيه العوام بكراهة القيام بذكر مولد خير الأنام” .
وكَتَبَ/
(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به
الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها الله
تمت بحمد الله
]1[ “صفا المورد”(ص/3)للحجوي الثعالبي
]2 [“تهذيب الفروق”(4/277). وعقب عليه الشيخ محمد علي المالكي رحمه الله بقوله: “أي: إن لا حظ من لم يفعله تحقيره صلى الله عليه وسلم بذلك، وإلا فهي معصية”انتهى.
]3 [“المولد”(ص/77)
]4[ “طبقات الشافعية الكبرى”(6/174)
]5[ “الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة” (ص/46)
]6[ “الفتاوى الحديثية” (ص/58) ، وفي “السيرة الشامية” (1/415) قال: ” جرت عادة كثير من المحبين إذا سمعوا بذكر وضعه صلى الله عليه وسلم أن يقوموا تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، وهذا القيام بدعة لا أصل لها”انتهى.
]7[ “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” (1/93)