مسألة: حديث إحياء والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : حجَّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، فمرَّ بي على عقبة الحجون وهو باكٍ حزين مغتم ، فبكيتُ لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه نزل فقال : يا حميراء استمسكي ، فاستند إلى البعير فمكث عني طويلاً ، ثم إنه عاد إليَّ وهو فرح مبتسم ، فقلت له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، نزلت من عندي وأنت حزين مغتم فبكيت لبكائك ، ثم إنك عدت إليّ وأنت فرح مبتسم ، فعَمَ ذا يا رسول الله ؟ فقال : ذهبت لقبر أمي آمنة فسألت الله أن يحييها فأحياها ، فآمنت بي وردها الله عز وجل .
رواه ابن شاهين في ” الناسخ والمنسوخ ” والخطيب البغدادي في ” السابق اللاحق ” – كما قال السيوطي في ” الحاوي ” ( 2 / 440 ) – .
واختلف العلماء في تصحيح الواقعة على قولين:
القول الأول: لم يقع ذلك؛ لأن الخبر باطل. وبه قال علماء، منهم:
– الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه: “الموضوعات” (1/283) قال:” هذا حديث موضوع بلا شك ، والذي وضعه قليل الفهم عديم العلم ، إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة ، لا ؛ بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع ، ويكفي رد هذا الحديث قوله تعالى : ( فيمت وهو كافر ) وقوله في الصحيح : ( استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ) وقد كان أقوام يضعون أحاديث ويدسونها في كتب المغفلين فيرويها أولئك ، قال شيخنا أبو الفضل بن ناصر : هذا حديث موضوع وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ودفنت هناك وليست بالحجون ” انتهى .
– الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في: “البداية والنهاية”(2/261) قال: ” وأما الحديث الذي ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده مجهولين إلى أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه ، فأحياهما وآمنا به : إنه حديث منكر جدّاً ، وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى ، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه ” انتهى .
وانتصر لذلك التقي ابن تيمية وحكى اتفاق المحدثين على أن الخبر موضوع، جاء في “مجموع الفتاوى” (4/325) : هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك ؟
فأجاب :
” لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث ; بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق ، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر – يعني الخطيب – في كتابه “السابق واللاحق” وذكره أبو القاسم السهيلي في “شرح السيرة” بإسناد فيه مجاهيل ، وذكره أبو عبد الله القرطبي في “التذكرة” وأمثال هذه المواضع ، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذباً ، كما نص عليه أهل العلم ، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث ; لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة ، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير ، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح ، لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين ، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ، فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة من وجهين : من جهة إحياء الموتى ، ومن جهة الإيمان بعد الموت . فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره ، فلما لم يروه أحد من الثقات عُلِم أنه كذب .
ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع . قال الله تعالى : ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ) وقال : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار) . فبين الله تعالى : أنه لا توبة لمن مات كافراً . وقال تعالى : ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس ; فكيف بعد الموت ؟ ونحو ذلك من النصوص . . . ” انتهى باختصار .
وألف في صحة هذا القول ملا علي القاري رسالة، يقول في “الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة” (ص 83) عن خبر احياء والدي المصطفى : ” خبر موضوع ، كما قال ابن دحية ، وقد وضعت في هذه المسألة رسالة مستقلة ” انتهى .
القول الثاني: أن خبر الإحياء وإن كان ضعيف السند لكنه يتقوى بدلائل أخرى، وبه قال علماء، منهم:
– الحافظ السهيلي ، وابن المنير، والقرطبي، قال الزرقاني رحمه الله تعالى في: ” شرح المواهب اللدنية “(1 /349) : “وقد بينا لك أيها المالكي حكم الأبوين ، فإذا سئلت عنهما ، فقل : إنهما ناجيان في الجنة ، إما لأنهما أحييا حتى آمنا ، كما جزم به الحافظ السهيلي والقرطبي وناصر الدين بن المنير ، وإن كان الحديث ضعيفا ، كما جزم به أولهم ووافقه جماعة من الحفاظ ، لأنه في منقبة وهي يعمل فيها بالحديث الضعيف…”انتهى.
– الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى، وله ست رسائل طبعت بالهند سنة 1334هـ في الانتصار لذلك،
وهي :
1. « مسالك الحنفاء في والدي المصطفى»
2. «الدرج المنيفة في الآباء الشريفة»
3. «المقامة السندسية في النسبة المصطفوية»
4. «التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة»
5. «نشر العلمين المنيفين في إحياء الأبوين الشريفين»
6. «السبل الجلية في الآباء العلية»
وعليه: فإن إحياء والدي المصطفى ليس مستحيلا عقلا، ولا ممتنعا شرعا، يقول القرطبي رحمه الله تعالى في: ” التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة”(ص:14) : “ليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعا ، فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله ، وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى ، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى .. .”انتهى.
ومن دلائل تقوية خبر إحياء والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حديث: “إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم” رواه مسلم (برقم: 2276) قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في: “الحاوي”(2/368) : “ومن المعلوم أن الخيرية والاصطفاء والاختيار من الله تعالى، والأفضلية عنده لا تكون مع الشرك” انتهى.
فائدة: ألَّف العلامة محمد بن عبدالرسول البرزنجي الحسيني(ت/ 1103 هـ)رحمه الله تعالى كتابا كبيرا في الإنتصار لنجاة والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسماه: “سَدَاد الدِين و سِدَاد الدَين في إثبات النجاة والدرجات للوالدين”،وضمَّنه نقض رسالة ملا علي القاري المشار إليها سابقا.
والله الموفق، لارب سواه.
تمت بحمد الله