صبغ الشعر بالسواد (حقيقته وحكمه)

 بطاقة الكتاب

الكتاب

صَبْغُ الشَّعْرِ بِالسَّوَاد (حَقِيقَتُهُ وَحُكْمُه)

المؤلف

الشيخ صالح بن محمد الأسمري

الفهرس

 المسألة الأولى: استعمال الصبغ بالسواد في الحرب والجهاد . 

المسألة الثانية : استعمال الصبغ بالسواد للتلبيس والخداع 

المسألة الثالثة: استعمال الصبغ بالسواد في غير الصورتين السابقتين

فـائـدة : لفظة(واجتنبوا السواد) مُدْرَجة 

فـائـدة : صنَّف علماء في المسألة

تنبيه: اشكال حديث: “يكون قوم في آخر الزمان يَخْضبون بـهذا السواد كحواصل الحمام ، لا يَرِيحون رائحة الجنة”

 

 

 

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فهذا تقرير موجز لمسألة صبغ الشعر بالسواد، سائلا الله التوفيق والسداد.والله المستعان،وعليه التكلان.
 اعلم -رحمني الله وإياك- أن للمسألة مقامين :

 

أولهما : مقام اتفاق . وفيه مسألتان : 


الأولى : استعمال الصبغ بالسواد في الحرب والجهاد . حيث اتُّفِق على جواز ذلك . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في: ((فتح الباري)): ” ويُسْتثنى من ذلك ـ أي : النهي عن الصبغ بالسواد ـ المجاهد ، اتفاقاً ” 
ا .هـ. وحكاه أيضاً القسطلاني رحمه الله في : ((إرشاد الباري لشرح صحيح البخاري )). ( وعِلَّته : ارهاب العدو ) قاله ابن عَلاّن رحمه الله في: ((دليل الفالحين)) ، وكذا غيره . 


والثانية : استعمال الصبغ بالسواد للتلبيس والخداع ، كأَنْ تفعله امرأة عند الخِطْبة تدليساً فهذا متفق على مَنْعِهِ وذمِّه . قال المباركفوري رحمه الله في : ((تحفة الأحوذي)):”وهو – أي : الخضب بالسواد لغرض التلبيس والخداع – حرام بالاتفاق” ا.هـ . لحديث : (( من غشنا فليس منا )) .


والثاني : مقام اختلاف . حيث اختُلِف في غير المسألتين السابقتين على أقوال :- 


أولها : الكراهة . وهو مذهب المالكية والحنابلة ، وقولٌ عند الحنفية والشافعية اعتمده جماعة من أصحابهم . فقد جاء في : ((أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك)) للكشناوي رحمه الله قوله : “ويكره صبغ الشعر بالسواد” ا.هـ. وفي : ((حاشية العدوي)) قوله : “ويكره صباغ الشعر الأبيض وما في معناه من الشقرة بالسواد، من غير تحريم” ا.هـ. 
وجاء في ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني رحمه الله قـوله : “وكُرِه تغيير الشيب بسواد في غير حرب ، وحَرُمَ للتدليس” ا.هـ . وفي : ((الإقناع لطالب الانتفاع)) للحجاوي رحمه الله قوله : “ويكره بسواد ، فإن حصل به تدليس في بيع أو نكاح : حَرُم” ا.هـ . وجاء في : ((حاشية ابن عابدين)) قوله : “وبعضهم – أي : الحنفية – جوَّزه بلا كراهة ” ا.هـ. وجاء في : ((المجموع شرح المهذب)) للنووي رحمه الله قوله : “اتفقوا – أي : الشافعية – على ذم خضاب الرأس واللحية بالسواد ، ثم قال الغزالي في : ((الإحياء)) والبغوي في : ((التهذيب)) وآخرون من الأصحاب : هو مكروه ، وظاهر عباراتـهم أنه كراهة تنـزيه “انتهى المراد .

وثانيها : التحريم . وهو قول عند الشافعية صَوّبه النووي رحمه الله وجماعة . قال النووي رحمه الله في : ((المجموع)): ” اتفقوا – أي : الشافعية – على ذم خضاب الرأس واللحية بالسواد . ثم قال الغزالي في: ((الإحياء)) والبغوي في : ((التهذيب)) وآخرون من الأصحاب : هو مكروه وظاهر عباراتـهم أنه كراهة تنـزيه . والصحيح بل الصواب : أنه حرام. وممن صَرّح بتحريمه صاحب ((الحاوي)) في باب الصلاة بالنجاسة” ا. هـ . 
وقال رحمه الله في : ((شرح مسلم)): “ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصُفْرة أو حُمْرة ، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح . وقيل : يكره كراهة تنـزيه ، والمختار : التحريم” ا.هـ . 
وقد كان المشهور عن الشافعية : الكراهة ، قال العيني رحمه الله في : ((عمدة القاري)): ” وعن الشافعية أيضاً روايتان ، والمشهور يكره، وقيل: يحرم” انتهى المراد. لكن قال السفاريني رحمه الله في : ((شرح ثلاثيات المسند)): ” قال في : ((الفروع)) : (وللشافعية خلاف) ، ومُعْتَمد مذهبهم الآن : الحرمة” ا.هـ. والمنقول عن : ((الفروع)) لابن مفلح رحمه الله مسبوق بقوله فيه: ” ويكره بسواد ، وفـاقاً للأئمة، نص عليه – أي : الإمام أحمد رحمه الله -” ا.هـ . مع قوله في : ((الآداب الشرعية)): ” وعند الشافعية يستحب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ، ويحرم بالسواد على الأصح عندهم ” ا.هـ . 

وثالثها : الجواز . وهو قول عند الحنفيـة ، قال في : ((حاشية ابن عابدين)): ” وبعضهم جوَّزه بلا كراهة – يعني : الخضاب بالسواد – رُوي عن أبي يوسف أنه قال :(كما يعجبني أن تتزين لي ، يعجبها أن أتزيَّن لها)” : وقال في : ((الحاشية)) أيضاً : “والأصح أنه لا بأس به في الحرب وغيره” ا.هـ .

 
وَصْلٌ : قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في : ((فتح الباري)): ” ومنهم – أي : العلماء – من فَرَّق ذلك بين الرجل والمرأة ، فأجازه لها دون الرجل . واختاره الحليمي” ا.هـ .
والأصح والأَقْوى في المسألة : الجواز مع الكراهة دون تحريم . وبه قال الجمهور والأكثر ، قال علي القاري رحمه الله في : ((جَمْع الوسائل في شرح الشمائل)): “ذهب أكثر العلماء إلى كراهة الخضاب بالسواد ” ا.هـ. 
وحكى مثله في ((مرقاة المفاتيح)). وجعله ابن عبد البر -رحمه الله-: قولَ أهل العلم ؛ حيث قال في : ((الاستذكار)): “وأما قول مالك في الصبغ بالسواد : ( إنَّ غيره من الصبغ أحب إليه ) فهو كذلك؛ لأنه قد كَرِه الصبغَ بالسواد أهلُ العلم ” ا.هـ. وبه جزم الموفق ابن قدامة رحمه الله في : ((المغني)) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في : ((شرح العمدة)) ، وابن قيم الجوزية رحمه الله في : ((تهذيب السنن)) ، في آخرين . أفاده ظاهر كلامهم .

ودليل ذلك مركَّب من شيئين : 

أولهما : ما جاء عن جَمْع من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنـهم كانوا يخضبون بالسواد ويُجوِّزونه . ومنهم :
ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه . حيث أخرج الحكيم الترمذي رحمه الله في : ((المنهيات)) بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : 
(( اختضبوا بالسواد ؛ فإنه آنس للنساء وهيبة للعدو)) . وله طريق آخر عند ابن أبي الدنيا رحمه الله في : (( العمر والشيب)) ، وابن قتيبة رحمه الله في : ((عيون الأخبار)) ، وكذا غيره . 
ـ عثمان بن عفان رضي الله عنه . أخرجه عنه الدولابي رحمه الله في : ((الكنى)) بسنده إلى ابن أبي مليكة : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يخضب بالسواد” .
ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه . رواه عنه ابن الجوزي – رحمه الله – في : ((الشيب والخضاب)) بسنده إلى عبد الله بن حسن عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : “عليكم بهذا الخضاب الأسود ، فإنه أهيب لكم في صدور أعدائكم ، وأعطف لنسـائكم عليكم ” .
ـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه . حيث أخرج الطبراني – رحمه الله – في : 
(( المعجم الكبير )) عن سعيد بن المسيب : ” أن سعد بن أبي وقاص كان يخضب بالسواد ” . وله طريق أخرى عند الطبراني أيضاً .
ـ عمرو بن العاص رضي الله عنه . فقد أخرج الحاكم – رحمه الله – في : ((المستدرك)) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : (( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهرأى عمرو بن العاص وقد سوّد شيْبه ، فهو مثل جناح الغراب . فقال : ما هذا يا أبا عبد الله ؟ فقـال : أمـير المؤمنين أُحِب أن تُرى فيَّ بَقِيَّة . فلم يَنْهه عمر رضي الله عنه عن ذلك ولم يُعِبْه عليه )) .
ـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه . أخرجه ابن الجوزي في : ((الشيب والخضاب)) بسنده إلى عباس بن عبد الله بن معبد بن عباس قال : ” أول من خضب بالسواد : المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ” . وله شاهد عنده أيضاً. 
ـ جرير بن عبد الله رضي الله عنه . رواه عنه الطبراني في : ((المعجم الكبير)) بسنده إلى سليم أبي الهذيل أنه قال : ” رأيت جرير بن عبد الله يَخْضب رأسه ولحيته بالسواد ” .
ـ عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه . فقد أخرج الطبراني في : ((المعجم الكبير)) وغيره من طريق الليث بن سعد عن أبي عشانة المعافري أنه قال : ” رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد ” . 
وآخرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُلْحق بذلك ما جاء عند الطبراني في: ((المعجم الكبير)) عن عبد الرحمن بن برزج قال : “رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما ابني فاطمة رضي الله عنها : يخضبان بالسواد “. وله طرق أخرى .وما أخرجه ابن سعد رحمه الله في :((الطبقات)) بسنده إلى سعيد المقبري أنه قال : “رأيت أبناء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصبغون بالسواد، منهم : عمرو بن عثمان بن عفان ” . 
وعلى كُلٍّ فالآثار في ذلك مشهورة وإن لم يَصِح بعضها ، قال القرطبي رحمه الله في : ((المُفْهِم)): ” بل قد رُوي عن جماعة كثيرة من السلف أنهم كانوا يَصْبغون بالسواد ” ا.هـ . 
وقال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)) : “صَحّ عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد . ذكر ذلك عنهما ابن جرير في كتاب : ((تهذيب الآثار)) ، وذكره عن عثمان بن عفان ، وعبد الله بن جعفر ، وسعد بن أبي وقاص ، وعقبة بن عامر ، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله ، وعمرو بن العاص . وحكاه عن جماعة من التابعين ، منهم : عمرو بن عثمان وعلي بن عبد الله بن عباس ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وموسى بن طلحة ، والزهري ، وأيوب، وإسماعيل بن معدي كرب . وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار ، ويزيد ، وابن جريج ، وأبي يوسف ، وأبي إسحاق ، وابن أبي ليلى ، وزياد بن علاقة ، وغيلان بن جامع ، ونافع بن جبير ، وعمرو بن علي المقدمي ، والقاسم بن سلام ” ا.هـ . 

والثاني : ما أخرجه مسلم في : ((صحيحه)) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( غَيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد )) . وفيه النهي عن السواد، وأقلُّ درجاته : الكراهة ، وعليها يُحْمل الحديث جمعاً بينه وبين ما سبق عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن القيم – رحمه الله -في ((أعلام الموقعين)) حاكياً عن البيهقي قوله : ” وفي الرسالة القديمة للشافعي – بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم – قال : وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهادٍ ، وورعٍ وعقلٍ ، وأمرٍ استُدْرِكَ به علم ، وآرائـهم لنا أحْمَدُ وأولى بنا من رأينا ” انتهى المراد . ومن ثَمّ قال ابن القيم -رحمه الله -في : ((تهذيب السنن)) : ” وأما الخضاب بالسواد : فكرهه جماعة من أهل العلم ، وهو الصواب بلا ريب ” ا.هـ . 
وقوله في الخبر : “ولحيته كالثغامة بياضاً ” بَيَّنه القرطبي – رحمه الله – في: ((المُفْهِم)) بقوله: ” ( الثغامة ) : نبتٌ أبيض الزهر والثمر ، شَبَّه بياض الشيبه . قاله أبو عبيد . وقال ابن الأعرابي: هو شجرةٌ تبيض كأنـها الثلجة ” ا.هـ وبنحوه عند القاضي عياض رحمه الله في ((إِكْمال المُعْلِم بفوائد مسلم)).


فـائـدة :
قيل : إن لفظة : (واجتنبوا السواد) في الحديث : مُدْرَجة ، وليست من قوله صلى الله عليه وسلم ، وقد حكى ذلك وجوابه جماعة ، ومنهم : المباركفوري – رحمه الله – في : 
((تحفة الأحوذي)) حيث قال حاكياً ذلك : ” إن قوله 🙁 واجتنبوا السواد ) مُدْرَج في هذا الحديث ، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . والدليل على ذلك أن مسلماً روى هذا الحديث عن أبي خيثمة عن أبي الزبير عـن جابر إلى قوله : (غَيَّروا هذا بشيء) فحسب ، ولم يزد فيه قوله: (واجتنبوا السواد).وقد سأل زهير أبا الزبير هل قال جابر في حديثه : (جنبوه السواد) ؟ فأنكر ، وقال : لا . ففي ((مسند أحمد)) : حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك قالا حدثنا زهير بن أبي الزبير عن جابر ، قال أحمد في حديثه : حدثنا أبو الزبير عن جابر ، قال : أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأبي قحافة ، أو : جاء عام الفتح ، ورأسه ولحيته مثل : الثغام ، أو : مثل الثغامة . قال حسن : فأمر به إلى نسائه ، قال: غَيِّروا هذا الشيب . قال حسن : قال زهير : قلت لأبي الزبير : قال: (جنبوه السواد)؟ قال: لا . انتهى . وزهير هذا هو زهير بن معاوية المُكَنَّى بأبي خيثمة أحد الثقات الأثبات ، وحسن هذا هو حسن بن موسى أحد الثقات .
ورُدَّ هذا الجواب : بأن حديث جابر هذا رواه ابن جريج والليث بن سعد ، وهما ثقتان ثبتان عن أبي الزبير عنه . مع زيادة قوله : (واجتنبوا السواد) كما عند مسلم وأحمد وغيرهما . 
وزيادة الثقات الحفاظ مقبولة والأصل عدم الإدراج . وأما قول أبي الزبير: ( لا ) في جواب سؤال زهير : فمبني عليه – كذا ؛ ولعل صوابها على – أنه قد نسي هذه الزيادة ، وكم من محدِّث قد نَسي حديثه بعدما أحدثه . وخَضْبُ ابن جريج بالسواد لا يَسْتلزم كون هذه الزيادة مُدْرَجة كما لا يَخْفى” ا.هـ . 
وفي قوله – رحمه الله -: (وخُضْبُ ابن جريج …) إشارة إلى ما حكاه من قَبْلُ – كما في : ((تحفة الأحوذي)) – بقوله : ” وأجاب المـُجوِّزون – أي : للخضاب بالسواد – عن هذه الزيادة – أي : (واجتنبوا السواد) – : بأن في كونها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً ، ويُؤيِّده أن ابن جريج راوي الحديث عن أبي الزبير كان يَخْضب بالسواد ” ا.هـ.


فـائـدة : 
صنَّف ابن أبي عاصم وابن الجوزي رحمهما الله في الخضاب بالسواد مصنَّفاً، وقرَّرا فيه الجواز دون تحريم ، قال المباركفوري رحمه الله في : ((تحفة الأحوذي)) : “وكان ممن يَخْضب بالسواد ويقول به : محمد بن إسحاق – صاحب المغازي – ، والحجاج بن أرطأة ، والحافظ ابن أبي عاصم ، و ابن الجوزي – ولهما رسالتان مفردتان في جواز الخضاب 
بالسواد – وابن سيرين ، وأبو بردة ، وعروة بن الزبير ، وشرحبيل بن السمط ، وعنبسة بن سعيد وقال : (إنما شعرك بمنـزلة ثوبك فاصبغه بأي لون شئت ، وأحبه إلينا أحلكه) ا.هـ .


تنبيــه : 
يُشكل على ما سبق ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، حيث قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (( يكون قوم في آخر الزمان يَخْضبون بـهذا السواد كحواصل الحمام ، لا يَرِيحون رائحة الجنة )) . والحديث خَرَّجه أحمد في : ((المسند)) ، والنسائي في : ((السنن)) ، وأبو داود في : ((السنن)) في آخرين من طريق عبيد الله بن عمرو الرقّي عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به . وقد صَحَّحه الذهبي رحمه الله – كما في ((تنـزيه الشريعة)) لابن عَرَّاق – والعينـي رحمه الله في : ((عمدة القاري)). وأما سنده فقال عنه الحاكم -كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري – : ((صحيح الإسناد)) . وقال ابن مفلح رحمه الله في : ((الآداب الشرعية)) : “إسناده جيد” . وقال العراقي رحمه الله في: ((المغني عن حمل الأسفار)) : “إسناده جيد”. وقال ابن حجر رحمه الله في : ((فتح الباري)) : “إسناده قوي ، وصححه ابن حبان” ، وتَبِعهم آخرون .
وحَلُّ إشكاله من جهتين :

الأولى : ثبوته . حيث طَعَن في صحته جماعة ، ومنهم : ابن الجوزي رحمه الله في : ((الموضوعات)) بقوله : ” هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” . وقال القاري رحمه الله في : ((مرقاة المفاتيح)): ” قال ميرك : وفي إسناده مقال ” . ومدار إسناده على : عبد الكريم ، قال ابن الجوزي في : ((الموضوعات)) : “والمُتَّهم به : عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري . قال أيوب السختياني : (والله إنه لغير ثقة) . وقال يحيى : (ليس بشيء) . وقال أحمد بن حنبل : (ليس بشيء، يُشبه المتروك) . وقال الدارقطني : (متروك) ” ا.هـ . 
لكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في : ((القول المسدد)): ” أخطأ ابن الجوزي ، فإن عبد الكريم الذي هو في الإسناد هو ابن مالك الجزري الثقة المُخرَّج له في الصحيح” ا.هـ . قال ابن عَرَّاق رحمه الله في : ((تنـزيه الشريعة)) مُعَقِّباً : “وسبق الحافظ ابن حجر إلى تخطئة ابن الجوزي في هذا الحديث : الحافظُ العلائي … وكذلك قال الذهبي في : ((تلخيص الموضوعات)) انتهى المراد . 
ويُؤيِّد كونه : ابن أبي المخارق – ما خَرَّجه الطبراني في : ((معجمه)) والحكيم الترمذي في: ((المنهيات)) من طريق : (عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية عن مجاهد عن ابن عباس به) كذا ورد منصوصاً على اسمه ، وكذلك عند الخلال في كتاب : ((الترجُّل)) (ص139) . 
ثم الحديث مُخْتَلَف في كونه مرفوعاً أو موقوفاً ، قال الحافظ في : ((الفتح)) بعد ذكره للحديث : “وإسناده قوي إلا أنه اختُلِف في رفعه ووقفه” ا.هـ . ولعل مراده : وَقْفه على مجاهد – أي من قوله رحمه الله لا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم – ، ويَشْهد لذلك ما أخرجه عبد الرزاق في : ((مصنفه)) عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد به . وعليه يُشْكل قول الحافظ في : ((الفتح)): “وعلى تقدير ترجيح وقفه ، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع” ا.هـ . لأن ما قاله صالحٌ في حَقّ موقوفات الصحابة لا التابعين ، قال العراقي في : ((الألفية)) : 

وما أتى عن صـاحبٍٍ بحيـثُ لا  *** يقال رأياً حُكمـُه الرَّفعُ على
ما قال في (المَحْصولِ) نحوُ مَنْ أَتَى *** فالحـاكمُ الرفـعَ لهذا أثْبتـا


والثانية : دلالته . حيث أُجيب عنه بأجوبة :
ـ منها : قول القرطبي رحمه الله في : ((المفهم)) : “وقد روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال : “يكون في آخر الزمان قوم يَصْبغون بالسواد، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها” ، غير أنه لم يُسْمع أن أحداً من العلماء 
– وفي نسخة : الصحابة رضي الله عنهم – قال بتحريم ذلك ، بل قد روي عن جماعة كثيرة من السلف أنهم كانوا يَصْبغون بالسواد” ا.هـ . 
ـ ومنها : قول ابن الجوزي رحمه الله في : ((الموضوعات)):
” وإنما كرهه قوم لما فيه من التدليس ، فأما أن يرتقي إلى درجة التحريم إذ لم يدلّس به : فيجب به هنا الوعيد، فلم يقل بذلك أحد . ثم نقول على تقدير الصحة : يحتمل أن يكون المعنى : لا يريحون ريح الجنة لفعلٍ يصدر منهم أو اعتقاد ، لا لعلّة الخضاب ، ويكون الخضاب سيماهم : فعرّفهم بالسِّيما كما قال في الخوارج : (سيماهم التحليق) ، وإن كان تحليق الشَّعر ليس بحرام” ا.هـ . 
ـ ومنها : ما حكاه المباركفوري رحمه الله في : ((تحفة الأحوذي)) 
بقوله:” إن الوعيد الشديد المذكور في هذا الحديث : ليس على الخضب بالسواد ، بل على معصية أخرى لم تُذْكَر – كما قال الحافظ ابن أبي عاصم – ، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد )) وقد عُرفتْ وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم. فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضب بالسواد، إذ لو كان الوعيد على الخضب بالسواد لم يكن لذِكْر قوله ( في آخر الزمان ) فائدة ؛ فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح ” ا.هـ . 

 

وكَتَبَ/

(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به

الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها اللهُ

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *